الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الوجه الرابع من وجوه إعجازه . مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني. وقد ألف علماؤنا في أسرارها تواليف كثيرة منهم العلامة أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتاب سماه " البرهان " في مناسبة ترتيب سور القرآن. ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سماه نظم الدرر في تناسب الآي والسور. وكتابي الذي صنفته في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات مع ما تضمنه مرتبا من جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء لطيف سميته تناسق الدرر في تناسب السور. وعلم المناسبة علم شريف قل اعتناء المفسرين به لدقته، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان كثير العلم في [ ص: 44 ] الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئت عليه الآية: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد، لعدم علمهم بالمناسبة. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط. ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض. وقال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وهم من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة. وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا، وتأصيلا، فالصحف على وفق اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له. وقال الإمام الرازي في سورة البقرة: ومن تفكر في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف، غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:

والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

المناسبة في اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع [ ص: 45 ] علاقات التلازم الذهني، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه. وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم التلائم الأجزاء فنقول: ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه في الأولى، فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل، وهذا القسم لا كلام فيه. وإما ألا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم، أو لا. فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه، كقوله تعالى: يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وقوله: والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون . للتضاد بين القبض والبسط، والولوج والخروج، والنزول والعروج، وشبه التضاد بين السماء والأرض. ومما العلاقة فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة. وقد جرت عادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا أو وعيدا. لتكون باعثا على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه، ليعلم عظم الآمر الناهي. وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك. وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام، وهي قرائن معنوية تؤذن بالربط. وله أسباب: أحدها: التنظير، فإن إلحاق النظير بالنظير من شأن العقلاء، [ ص: 46 ] كقوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق - عقب قوله: أولئك هم المؤمنون ، فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير أو القتال وهم له كارهون، والقصد أن كراهتهم لما فعله من قسم الغنائم ككراهتهم للخروج. وقد تبين في الخروج الخير من النصر والظفر والغنيمة وعز الإسلام. فكذا يكون فيما فعله في القسمة، فليطيعوا ما أمروا ويتركوا هوى أنفسهم. الثاني: المضادة، كقوله في سورة البقرة: إن الذين كفروا سواء عليهم . فإن أول السورة كان حديثا عن القرآن، وأن من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان. فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فبينهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثا عن المؤمنين بالعرض لا بالذات، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن، لأنه مفتتح القول. قيل: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن، والعمل به، والحث على الإيمان، ولهذا لما فرغ من ذلك قال: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا . - فرجع إلى الأول. الثالث: الاستطراد: كقوله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم . قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوءات، وخصف الورق عليها، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العراء وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى. [ ص: 47 ] وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ، فإن أول الكلام ذكر فيه الرد على النصارى الزاعمين بنوة المسيح، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة. ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص، وهو أن ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما. وقد غلط أبو العلاء بن غانم في قوله: لم يقع منه في القرآن شيء لما فيه من التكلف، وقال: إن القرآن إنما وقع ردا كل الاقتضاب الذي هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم. وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحير العقول. وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة . وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته: قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ، من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله. وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم: ولا تخزني يوم يبعثون . فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله: يوم لا ينفع مال ولا بنون . وفي سورة الكهف حكى سد " ذو القرنين " بقوله: فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، فتخلص منه إلى وصف حالهم بعد ذكر الذي [ ص: 48 ] هو من أشراط الساعة ثم النفخ في الصور، وذكر الحشر، ووصف حال الكفار والمؤمنين. وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلص تركت ما كنت فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه. وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مرورا كالبرق الخاطف ثم تتركه إلى ما كنت فيه، كأنك لم تقصده، وإنما عرض عروضا. قال: وبهذا يظهر أن ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا التخلص، لعوده في الأعراف إلى قصة موسى بقوله: ومن قوم موسى أمة . وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم. ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطا للسامع مفصولا بهذا كقوله في سورة ص - بعد ذكر الأنبياء: هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب . قال: هذا القرآن نوع من الذكر لما انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعا آخر وهو ذكر الجنة وأهلها، تم لما فرغ قال: هذا وإن للطاغين لشر مآب . فذكر النار وأهلها. قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل هو أحسن من الوصل، وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر. ويقرب منه أيضا حسن الطلب. قال الزنجاني والطيبي: وهو أن يخرج إلى الغرض بعد تقدمة الوسيلة، كقولك: إياك نعبد وإياك نستعين . قال الطيبي: وما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله تعالى - حكاية عن إبراهيم: فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني ... إلى قوله رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين . [ ص: 49 ] قاعدة لبعض المتأخرين: الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبة الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في مقدمات إلى ما تستتبعه من استشراف، نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المعين على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا فعلته بين لك وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة وسورة. تنبيه : من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: لا تحرك به لسانك لتعجل به ... . القيامة: 16، الآيات، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسير جدا، فإن السورة كلها في أحوال القيامة، حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى زعم القفال فيما حكاه الفخر الرازي إلى أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل، في قوله: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر .. قال: يعرض عليه كتابه، فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفا، فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت، ثم إن علينا بيان أمر الإنسان وما يتعلق بعقوبته. وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسانه حالة نزول الوحي. وقد ذكر الأئمة لها مناسبات: منها: أنه تعالى لما ذكر القيامة، وكان من شأن من يقصر عن العمل لها حب العاجلة، وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى [ ص: 50 ] أفعال الخير مطلوبة، فنبه على أنه قد يعترض على هذا المطلوب ما هو أجل منه، وهو الإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يراد منه، والتشاغل بالحفظ قد يصد عن ذلك، فأمر بألا يبادر إلى التحفظ، لأن تحفيظه مضمون على ربه، وليصغي إلى ما يرد عليه إلى أن يقضى، فيتبع ما اشتمل عليه. ثم لما انقضت الجملة المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبدأ بذكره، ومن هو من جنسه، فقال: كلا . القيامة، 20، وهي كلمة ردع، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عجل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة. ومنها أن عادة القرآن إذا ذكر الكلام المشتمل على عمل العبد حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملا وتركا، كما قال في الكهف: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ... ، إلى أن قال: ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل . وقال في طه: يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا . إلى أن قال: فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . ومنها أن أول سورة القيامة لما نزل إلى: ولو ألقى معاذيره القيامة: 15، صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وتحرك به لسانه من عجلته خشية من تفلته، فنزل: لا تحرك به لسانك ... إلى قوله: ثم إن علينا بيانه، ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدئ به. قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مسألة فتشاغل الطالب بشيء عرض له، فقال له: ألق إلي بالك، وتفهم ما أقول. ثم كمل المسألة، فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسبا للمسألة بخلاف من عرف ذلك. ومنها أن " النفس" لما تقدم ذكرها في أول السورة عدل إلى ذكر نفس [ ص: 51 ] المصطفى، كأنه قال: هذا شأن النفوس، وأنت يا محمد نفسك أشرف النفوس، فلتأخذ بأكمل الأحوال. ومن ذلك قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة . فقد قيل: أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت من أبوابها؟ وأجيب بأنه من باب الاستطراد، لما ذكر أنها مواقيت للحج، وكان هذا من أفعالهم في الحج - كما ثبت في سبب نزولها - ذكر معه من باب الزيادة في الجواب على ما في السؤال على حد: سئل عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. ومن ذلك قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله . فقد يقال: ما وجه اتصاله بما قبله، وهو قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه . فقال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن الدهان يقول: وجه اتصاله هو أن تخريب بيت المقدس قد سبق، أي فلا يجرمنكم ذلك واستقبلوه، فإن لله المشرق والمغرب.

التالي السابق


الخدمات العلمية