الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 411 ] ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء وهو أبوهم

                                                          ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون

                                                          * * *

                                                          إن إبراهيم أبو الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وجاءوا بعده ، وقد يكون هناك أنبياء آخرون بل لا بد أن يكون ذلك ; لأن الله تعالى يقول : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ويقول : منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك

                                                          ولقد دعا الله تعالى إلى ملة إبراهيم الناس جميعا من بعده ، لأنها إجابة للفطرة ، وتنبعث من النفس المستقيمة واتجاه العقل الحكيم ، ولقد قال تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ومن هنا استفهام إنكاري يتضمن معنى نفي الوقوع ، ويتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا ، والمعنى لا يرغب عن ملة إبراهيم ويتركها متجاوزا لها إلى غيرها من الأوهام الباطلة إلا من سفه نفسه .

                                                          وقوله تعالى : يرغب عن فيها التجاوز والترك إلى أوهام ، ونقيض يرغب عنها : يرغب فيها ، فالرغبة فيها إقبال عليها ، والرغبة عنها تجاوز عنها ، وترك لها ، وهذا يتضمن أمرين : أولهما - أنه علمها ، وكان ينبغي أن يرغب فيها ولكنه تجاوزها وتركها لا عن انصراف مجرد ، بل عن قصد وإعراض ، وثانيهما - أنه اتجه ورغب في غيرها ، ونفى الله تعالى الرغبة عنها إلا ممن سفه .

                                                          [ ص: 412 ] وقوله تعالى : إلا من سفه نفسه أي جهلها في حمق ورعونة ; لأن النفس الإنسانية المستقيمة تتجه إلى الله لما في داخلها من ينبوع الخير الداعي إلى إدراك الحق المستقيم ، ولأن كل ما في النفس من عقل مدرك ، ويد تبطش وعين تبصر وأذن تسمع ورجل تسير بها كلها يدل على الإيمان الحق ويهدي ، كما قال في الذين يضلون إذ ينسون خلقهم وكونهم ، فيقول : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل فالنفس الإنسانية لو تأملنا خلقها وتكوينها تهدي وترشد إلى الحق ، ولقد قال تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون

                                                          وقوله تعالى : إلا من سفه نفسه أي جهلها عن سفه وحمق ورعونة كما ذكرنا ، والفرق بين جهل النفس ، وأن يكون قد سفهها أن الجهل قد يكون عدم علم وعدم اهتداء إلى الحق ، وألا يكون عنده أدوات العلم وطرق المعرفة ، أما السفه فمعناه أن يجهل وعنده طرق المعرفة ، وأسبابها ويتركها حمقا ورعونة ، ولقد قال تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وسفه نفسه ، قيل إنها بمعنى سفه بتشديد الفاء بمعنى أوقعها في جهل وسلك بها غير ما تهدي إليه الفطرة .

                                                          وإن ملة إبراهيم هي ملة النبيين فقد قال تعالى : فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين آل عمران ، وقال تعالى في سورة الحج : وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين

                                                          وإن ملة إبراهيم كانت ملة النبيين ; لأن الله تعالى اختاره للإمامة ، وابتلاه بالكلمات ، ولأنه كان يشكر نعم ربه ، ولأنه اختاره لبناء البيت ، ولأنه اختاره لتعليم مناسك الحج ، ولأنه اختاره ليكون أبا الأنبياء ; ولذلك كله قال تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين وقال تعالى في آية أخرى : شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم

                                                          [ ص: 413 ] ومعنى اصطفاه الله تعالى ، أي اختاره بعد أن ابتلاه بما صفى نفسه وخلصها لله تعالى ، وصار ليس في قلبه موضع لغيره فاختاره من بين خلقه خليلا له ، وكان أمة وإماما ، وكان أواها حليما رجاعا إلى الله تعالى دائما .

                                                          وأكد سبحانه وتعالى أنه في الآخرة لمن الصالحين ، ففي الدنيا اصطفاه ، فكان معه فيها على الخير المطلق ، وقد ابتلي فأحسن البلاء ، وكان صفيا وكان وليا ، واختص بأن يكون خليلا .

                                                          وقد وصف سبحانه وتعالى حاله في الآخرة مؤكدا فقال : وإنه في الآخرة لمن الصالحين وقد قال بعض الناس : إن العمل الصالح في الدنيا وإن جزاءه في الآخرة فالآخرة دار جزاء لا دار عمل ، فكيف يقال في الآخرة إنه من الصالحين ؟ ! ونقول في الجواب عن ذلك إن ما ذكره الله تعالى عن حاله في الآخرة أنه سجل له الوصف بأنه من الصالحين فقد سجل عليه سبحانه وصف الصلاح ، والمعنى أنه ختم أعماله في الدنيا بالخير ، وصار في زمرة من كتب الله لهم الصلاح في الآخرة ، ففي الآخرة جعله تعالى في جملة من رضي عنهم ووسمهم بالصلاح فكافأهم برضوانه تعالى وهو أكبر الجزاء ، فليس في الآخرة عمل ، وإنما في الآخرة تسجيل الصلاح ، والجزاء عليه ، وأنه يكون الصالح الذي جعل له لسان صدق في الآخرين .

                                                          وقد أكد سبحانه وتعالى أنه في زمرة الصالحين الذين نالوا رضوان الله بقوله : وإنه في الآخرة لمن الصالحين فأكد بإن الدالة على توكيد الخبر ، وأكد بـ " اللام " في قوله لمن الصالحين ، وأكده بتقديم في الآخرة ، وذلك التأكيد لأنه من الذين وصلوا إلى أعلى درجات الصلاح .

                                                          وإن عده من الصالحين يوم القيامة ، إنما كان لأنه أخلص وأسلم وجهه لله رب العالمين مستجيبا طلب الله تعالى منه ، إذ طلب ربه منه أن يكون كله له وحده ; ولذا قال تعالى : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين الإسلام هنا هو الإخلاص والإذعان لله تعالى ، وهو كالإسلام في قوله تعالى : بلى من أسلم وجهه لله وهو [ ص: 414 ] محسن فهو غاية الإيمان وأقصاه ، وقد ذكرنا أن الإيمان تصديق وإذعان وتسليم ، والإسلام تخليص القلب والنفس والجوارح لله تعالى ، فهو أعلى درجات الإيمان .

                                                          وهو ليس الإسلام الذي هو نقيض الإيمان أو يغايره ، وهو الإذعان المادي ، والخضوع لأحكام الإسلام سواء أكانت مع القلب ، أم لم تكن ، وهو الذي قال فيه للأعراب إذ قالوا : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم

                                                          وهذا هو الإسلام الذي يفرق علماء الكلام بينه وبين الإيمان ، وليس موضوعه ، وإنما هنا الإسلام بمعنى إسلام الوجه والجوارح لله تعالى ، وهو الذي قال الله تعالى فيه : إن الدين عند الله الإسلام

                                                          وقد يقال إن إبراهيم أثبت إخلاصه لله تعالى ودعا الله تعالى أن يجعله وابنه إسماعيل مسلمين ، فقال في ذلك : واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك فلم كان الأمر بذلك ، وقد طلباه ؟

                                                          فقالوا في الإجابة عنه أنه أمر بالاستدامة على الإسلام وتثبيت التوحيد ، ونقول في ذلك أيضا إن الآية لبيان مقام إبراهيم عليه السلام في الاستجابة لأمر ربه ، وخلوص نفسه إذ أمره بذلك فاستجاب فورا قائلا أسلمت لرب العالمين ، فهذا النص لبيان مدى استجابة خليل الله تعالى لربه غير متردد ، ولا متلكئ ، ولكن صار إبراهيم يقول : أسلمت أي خلصت نفسي وجعلتها لرب العالمين ، أي لخالق العالمين والقائم عليهم وربهم وكالئهم ، وإن ذلك شكر له ، فهو في ذلك شاكر لأنعم الله تعالى كحاله دائما .

                                                          وإن إبراهيم عليه السلام ، وصى بهذه الملة بنيه من بعده جيلا بعد جيل ، وصى بها بنيه ، ووصى بها أحفاده ، وأبناءهم ، فمن كفر بها ، فقد كفر بالله وبوصية إبراهيم ، وما كان إبراهيم ليرضى عنهم إذ كفروا بربهم كالمشركين ، إذ غيروا وبدلوا في دين إبراهيم ، وكاليهود الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا ، ولقد رد الله تعالى [ ص: 415 ] قولهم بقوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما

                                                          ذكر الله تعالى وصية إبراهيم وقال تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب الضمير في بها يعود إلى ملة إبراهيم التي هي موضوع الذكر من قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ووصى بأنها الإخلاص لله فقد قال تعالى : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين فهي موضوع الحديث .

                                                          والتوصية طلب الشخص من غيره القيام بأمر معين والتشدد في طلبه ، وهي غالبا يكون تنفيذها بعد الوفاة ، فهي طلب أو إعطاء في الحياة أو في آخرها ليكون تنفيذها بعد وفاته .

                                                          وقد وصى إبراهيم بنيه بأن يستمروا مستمسكين بملته بعد وفاته ، ويعقوب عليه السلام - وهو حفيد إبراهيم من إسحاق عليه السلام - قد وصى أيضا بذلك .

                                                          وأولاد إبراهيم المذكورون في القرآن هم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام ، وذريتهما من بعدهما ، وقد قال تعالى في ذرية إسحاق : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين وقال تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين

                                                          وقوله : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب برفع يعقوب بالعطف على إبراهيم عليه السلام أي أن إبراهيم عليه السلام وصى بهذه الملة بنيه ، ويعقوب وصى بها بنيه كذلك ، وكانت صيغة الوصية كما ذكرها القرآن يا بني إن الله اصطفى لكم الدين وهذه الجملة السامية تفسير لمعنى ووصى ، لأنها صيغة الوصية ; ولذا قالوا إن هناك تقديرا ، وهو أن بفتح الهمزة التي تدل على أن ما بعدها بيان لما قبلها .

                                                          والوصية أو صيغتها كانت بنداء كل من إبراهيم ، ويعقوب لأبنائه بقوله : يا بني ، بجمع المذكر السالم الذي حذفت منه النون بالإضافة إلى ياء المتكلم .

                                                          [ ص: 416 ] وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم من نفسه ، وفي ذلك دليل على الشفقة بهم والرفق ، وأنه يؤثرهم بما يدل على محبته وحدبه عليهم ، ومضمون الملة التي وصى بها إن الله اصطفى لكم الدين أي أن الله جل جلاله ، وهو ربكم الذي ذرأكم وأنعم عليكم ، اختار لكم الدين الكامل ، والدين هنا ، هو ملة إبراهيم ، فهي دين إبراهيم ودينكم ودين الخليقة من بعده ، وهو ملته ، وهو الإخلاص لله رب العالمين وإسلام الوجه له ، كما فسر الله تعالى ، من قبل بقوله تعالى : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين

                                                          وقد صرح سبحانه وتعالى بغاية الوصية ونهايتها كما جاءت على لسانهم ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون والفاء هي للإفصاح عن شرط مقدر ، أي إذا كانت هذه الملة هي الدين الذي اختاره لكم وهو الإسلام ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وقوله تعالى : وأنتم مسلمون حال من تموتن .

                                                          وقد أكد سبحانه وتعالى الطلب بنون التوكيد الثقيلة ، وليس النهي متجها إلى الموت ; لأن الموت ليس أمرا اختياريا يجري فيه التكليف بالأمر ، وإنما الأمر منصب على البقاء على الإسلام ، أي لا بد أن تبقوا على الإسلام مؤكدا ذلك حتى تموتوا وأنتم على حاله وقيامه ، كما تقول : لا تصل إلا وأنت خاشع فهو أمر بالخشوع وليس نهيا عن الصلاة .

                                                          وقوله تعالى : يا بني إن الله اصطفى لكم أهي وصية إبراهيم وحفيده يعقوب معا ؟ الظاهر ذلك ، وقال بعضهم : إنها وصية إبراهيم وأمها وصية يعقوب فقد أشير إليها في قوله تعالى من بعد : أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون

                                                          وأرى أن قوله تعالى : يا بني إن الله اصطفى لكم وصيتهما معا ، ولما جادل اليهود في ذلك قال تعالى مفندا كلامهم ، مبينا حقيقة الأمر أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إلى آخر الآية ، وعلى هذا التخريج فالوصية واحدة ، اللهم إنا أسلمنا وجهنا لك كما أسلم إبراهيم وجهه لرب العالمين .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية