الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الزكاة في أموال اليتامى

أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال : الناس عبيد الله جل وعز فملكهم ما شاء أن يملكهم وفرض عليهم فيما ملكهم ما شاء { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } . فكان فيما آتاهم أكثر مما جعل عليهم فيه ، [ ص: 30 ] وكل أنعم فيه عليهم جل ثناؤه ، فكان فيما فرض عليهم فيما ملكهم زكاة أبان أن في أموالهم حقا لغيرهم في وقت على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فكان حلالا لهم ملك المال وحراما عليهم حبس الزكاة ; لأنه ملكها غيرهم في وقت كما ملكهم أموالهم دون غيرهم فكان بينا فيما وصفت ، وفي قول الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أن كل مالك تام الملك من حر له مال فيه زكاة سواء في أن عليه فرض الزكاة بالغا كان ، أو صحيحا ، أو معتوها ، أو صبيا ; لأن كلا مالك ما يملك صاحبه ، وكذلك يجب في ملكه ما يجب في ملك صاحبه وكان مستغنيا بما وصفت من أن على الصبي ، والمعتوه الزكاة عن الأحاديث كما يلزم الصبي ، والمعتوه نفقة من تلزم الصحيح البالغ نفقته ويكون في أموالهما جنايتهما على أموال الناس كما يكون في مال البالغ العاقل ، وكل هذا حق لغيرهم في أموالهم فكذلك الزكاة والله أعلم ، وسواء كل مال اليتيم من ناض وماشية وزرع وغيره ، فما وجب على الكبير البالغ فيه الزكاة وجب على الصغير فيه الزكاة ، والمعتوه وكل حر مسلم ، وسواء في ذلك الذكر ، والأنثى أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ابتغوا في مال اليتيم ، أو في أموال اليتامى حتى لا تذهبها ، أو لا تستهلكها الصدقة } أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن معمر عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب قال لرجل : إن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : كانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تليني أنا وأخوين لي يتيمين في حجرها ، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة . باب زكاة مال اليتيم الثاني

أخبرنا الربيع قال ( قال الشافعي ) : الزكاة في مال اليتيم كما في مال البالغ ; لأن الله عز وجل يقول : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } فلم يخص مالا دون مال وقال بعض الناس إذا كانت ليتيم ذهب ، أو ورق فلا زكاة فيها واحتج بأن الله يقول : { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وذهب إلى أن فرض الزكاة إنما هو على من وجبت عليه الصلاة وقال : كيف يكون على يتيم صغير فرض الزكاة ، والصلاة عنه ساقطة ، وكذلك أكثر الفرائض ؟ ألا ترى أنه يزني ويشرب الخمر فلا يحد ويكفر فلا يقتل ؟ واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { رفع القلم عن ثلاثة } ثم ذكر { ، والصبي حتى يبلغ } .

( قال الشافعي ) رحمه الله لبعض من يقول هذا القول : إن كان ما احتججت على ما احتججت فأنت تارك مواضع الحجة ; قال : وأين قلت زعمت أن الماشية ، والزرع إذا كانا ليتيم كانت فيهما الزكاة ؟ فإن زعمت أن لا زكاة في مال فقد أخذتها في بعض ماله ولعله الأكثر من ماله وظلمته فأخذت ما ليس عليه في ماله ، وإن كان داخلا في الإرث ; لأن في ماله الزكاة فقد تركت زكاة ذهبه وورقه أرأيت لو جاز لأحد أن يفرق بين هذا فقال : آخذ الزكاة من ذهبه وورقه ولا آخذها من ماشيته وزرعه ، هل كانت الحجة عليه إلا أن يقال لا يعدو أن يكون داخلا في معنى الآية ; لأنه حر مسلم فتكون الزكاة في جميع ماله ، أو يكون خارجا منها بأنه غير بالغ فلا يكون في شيء من ماله الزكاة ؟ أو رأيت إذ زعمت أن على وليه أن يخرج عنه زكاة الفطر فكيف أخرجته مرة من زكاة وأدخلته في أخرى ؟ أو رأيت إذ زعمت أنه لا فرض للصلاة عليه فذهبت إلى أن الفرائض تثبت معا وتزول معا ، وأن المخاطبين بالفرائض هم [ ص: 31 ] البالغون ، وأن الفرائض كلها من وجه واحد يثبت بعضها بثبوت بعض ويزول بعضها بزوال بعض حتى فرض الله عز ذكره على المعتدة من الوفاة أربعة أشهر وعشرا ثم زعمت أن الصغيرة داخلة في معنى فرض العدة ، وهي رضيع غير مدخول بها ، أو رأيت إذ فرض الله عز وجل على القاتل الدية فسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة بجناية القاتل خطأ كيف زعمت أن الصبي إذا قتل إنسانا كانت فيه دية وكيف زعمت أن الصبي في كل ما جنى على عبد وحر من جناية لها أرش ، أو أفسد له من متاع ، أو استهلك له من مال فهو مضمون عليه في ماله كما يكون مضمونا على الكبير وجنايته على عاقلته ، أليس قد زعمت أنه داخل في معنى فرائض خارج من فرائض غيرها ؟ أو رأيت إذ زعمت أن الصلاة ، والزكاة إذا كانتا مفروضتين فإنما تثبت إحداهما بالأخرى أفرأيت إن كان لا مال له أليس بخارج من فرض الزكاة ؟ ، فإذا خرج من فرض الزكاة أيكون خارجا من فرض الصلاة ؟ أو رأيت إن كان ذا مال فيسافر أفليس له أن ينقص من عدد الحضر ؟ أفيكون له أن ينقص من عدد الزكاة بقدر ما نقص من الصلاة ؟ أرأيت لو أغمي عليه سنة أليس تكون الصلاة عنه مرفوعة أفتكون الزكاة عنه مرفوعة من تلك السنة ؟ أو رأيت لو كانت امرأة تحيض عشرا وتطهر خمسة عشر وتحيض عشرا أليس تكون الصلاة عنها مرفوعة في أيام حيضها ؟ وأما الزكاة عليها في الحول أفيرفع عنها في الأيام التي حاضتها أن تحسب عليها في عدد أيام السنة ؟ فإن زعمت أن هذا ليس هكذا فقد زعمت أن الصلاة تثبت حيث تسقط الزكاة ، وأن يكون قياسا على غيره ، أو رأيت المكاتب أليس الصلاة عليه ثابتة ، والزكاة عليه عندك زائلة ؟ فقد زعمت أن من البالغين الأحرار وغير الأحرار ، والصغار من يثبت عليه بعض الفرض دون بعض ؟ قال : فإنا روينا عن النخعي وسعيد بن جبير وسمى نفرا من التابعين أنهم قالوا : ليس في مال اليتيم زكاة فقيل له : لو لم تكن لنا حجة بشيء مما ذكرنا ولا بغيره مما لعلنا سنذكره إلا ما رويت كنت محجوجا به قال : وأين قلت زعمت أن التابعين لو قالوا كان لك خلافهم برأيك فكيف جعلتهم حجة لا تعدو أن يكون ما قلت من ذلك كما قلت فتخطئ باحتجاجك بمن لا حجة لك في قوله ، أو يكون في قولهم حجة فتخطئ بقولك لا حجة فيه ، وخلافهم إياك كثير في غير هذا الموضع ، فإذا قيل لك : لم خالفتهم ؟ قلت إنما الحجة في كتاب ، أو سنة ، أو أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو قول عامة المسلمين لم يختلفوا فيه ، أو قياس داخل في معنى بعض هذا ثم أنت تخالف بعض ما رويت عن هؤلاء .

هؤلاء يقولون فيما رويت : ليس في مال اليتيم زكاة ، وأنت تجعل في الأكثر من مال اليتيم زكاة ؟ قال فقد روينا عن ابن مسعود أنه قال أخص مال اليتيم ، فإذا بلغ فأعلمه بما مر عليه من السنين قلنا : وهذه حجة عليك لو لم يكن لنا حجة غير هذا ، هذا لو كان ثابتا عن ابن مسعود كان ابن مسعود أمر والي اليتيم أن لا يؤدي عنه زكاة حتى يكون هو ينوي أداءها عن نفسه ; لأنه لا يأمر بإحصاء ما مر عليه من السنين وعدد ماله إلا ليؤدي عن نفسه ما وجب عليه من الزكاة مع أنك تزعم أن هذا ليس بثابت عن ابن مسعود من وجهين ، أحدهما أنه منقطع ، وأن الذي رواه ليس بحافظ ، ولو لم يكن لنا حجة بما أوجدناك إلا أن أصل مذهبنا ومذهبك من أنا لا نخالف الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يخالفه غيره منهم كانت لنا بهذا حجة عليك ، وأنتم تروون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ولي بني أبي رافع أيتاما فكان يؤدي الزكاة عن أموالهم ونحن نرويه عنه ، وعن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وغير هؤلاء مع أن أكثر الناس قبلنا يقولون به ، وقد رويناه عن رسول [ ص: 32 ] الله صلى الله عليه وسلم من وجه منقطع أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ابتغوا في مال اليتيم لا تستهلكه الصدقة ، أو لا تذهبه الصدقة } ، أو قال { في أموال اليتامى لا تأكلها ، أو لا تذهبها الزكاة ، أو الصدقة } شك الشافعي رحمة الله عليه بها جميعا أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال " ابتغوا في أموال اليتامى لا تستهلكها الزكاة " أخبرنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزكي مال اليتيم أخبرنا سفيان عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد وعبد الكريم بن أبي المخارق كلهم يخبر عن القاسم بن محمد قال : كانت عائشة رضي الله عنها تزكي أموالنا ، وإنه ليتجر بها في البحرين أخبرنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة أن عليا رضي الله عنه كانت عنده أموال بني أبي رافع فكان يزكيها كل عام .

( قال الشافعي ) : وبهذه الأحاديث نأخذ وبالاستدلال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة } فدل قوله صلى الله عليه وسلم على أن خمس ذود وخمس أواق وخمسة أوسق إذا كان واحد منها لحر مسلم ففيه الصدقة في المال نفسه ، لا في المالك ; لأن المالك لو أعوز منها لم يكن عليه صدقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية