الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه ، الذين يستدلون على ذلك -أو عليه وعلى غيره- بنفي التجسيم [فإنهم] ينقضون الحجج التي يحتجون بها ، فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج . . . [كما ذكرناه] عن الرازي والآمدي [ ص: 278 ] [وأمثالهما] من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون [ما يجب تصديقه] بما يعلم بصريح العقل أنه خطأ ، بل يعارضون السمعيات التي يعلم أن العقل الصريح [موافق لها بما يعلم العقل الصريح أنه باطل] [وتارة] كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ، بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح ، وليسوا متفقين على طريقة واحدة .

وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين : من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون، ومن جهة أنه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول .

بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها ، تقول الأخرى هي باطلة ، وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة ، التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره ، لا من موجب فطرته ، فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية ، [ ص: 279 ] لا ترجع إلى العقل الصريح ، وهو يدعي أنها عقلية فطرية .

ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية ، إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم ، لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة ، فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ ، بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه ، بل قد علم جواز الخطأ عليه ، وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات ، فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بالأدلة المجملة والمفصلة .

والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو ، أو العلو وغيره من الصفات ، بناء على نفي التجسيم ، ففحول أهل الكلام -كأبي علي، وأبي هاشم، والقاضي [ ص: 280 ] عبد الجبار ، وأبي الحسن الأشعري ، والقاضي أبي بكر ، وأبي الحسين البصري ، ومحمد بن الهيصم ، وأبي المعالي الجويني ، وأبي الوفاء بن عقيل ، وأبي حامد الغزالي ، وغيرهم- يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي ، منهم من يبطل أصولهم المنطقية، وتقسيمهم الصفات إلى ذاتي وعرضي ، وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ، وعارض لها ، ودعواهم أن الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية، ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية ، وبناءهم توحيد واجب الوجود -الذي مضمونه نفي الصفات- على هذه الأصول .

وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية ، وليس هذا قول من قال : المعدوم شيء ، فإن أولئك يثبتون ذواتا معينة ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين ، وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة . وأرسطو وأتباعه إنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها ، وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية ، وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة .

وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ، ظنوا ثبوته في الخارج ، وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي ، ورسمي أو لفظي ، أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم ، هو بناء على هذا التقسيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية