الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (63) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (64) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) إنها ساءت مستقرا ومقاما (66) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71) والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73) [ ص: 2577 ] والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما (75) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76) قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (77)

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه " عباد الرحمن " بصفاتهم المميزة، ومقوماتهم الخاصة; وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال، بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملن الهدى لهذه البشرية، وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل، والعزاء المريح لحملة الهدى فيما لاقوه من جحود وصلادة وإعراض!.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم " الرحمن " فهاهم أولاء عباد الرحمن، الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده؛ ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم، ها هم أولاء مثلا حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم، وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض، ويوجه إليهم عنايته; فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم، لولا أن هؤلاء فيهم، ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ..

                                                                                                                                                                                                                                      ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن، أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعم يستكن فيها من مشاعر، والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة، فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة، وليس معنى يمشون على الأرض هونا أنهم يمشون متماوتين منكسي الرءوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان; كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مشى تكفأ تكفيا، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم - كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما الأرض تطوى له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب". وقال مرة: "إذا تقلع"، قلت: والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2578 ] وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية