الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1531 ] قوله : إن الإنسان خلق هلوعا قال في الصحاح : الهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه يقال هلع بالكسر فهو هلع وهلوع على التكثير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عكرمة : هو الضجور .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الواحدي : والمفسرون يقولون : تفسير الهلع ما بعده يعني قوله : إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا أي : إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك فهو جزوع ، أي : كثير الجزع ، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع والإمساك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الشر لم يصبر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ثعلب : قد فسر الله الهلوع : هو الذي إذا أصابه الشر أظهر شدة الجزع ، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس ، والعرب تقول : ناقة هلوع وهلواع إذا كانت سريعة السير خفيفته ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      شكا ذعلبة إذا استدبرتها حرج إذا استقبلتها هلواع

                                                                                                                                                                                                                                      والذعلبة : الناقة السريعة ، وانتصاب هلوعا وجزوعا ومنوعا على أنها أحوال مقدرة ، أو محققة لكونها طبائع جبل الإنسان عليها ، والظرفان معمولان ل " جزوعا " و " منوعا " .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا المصلين أي المقيمين للصلاة ، وقيل : المراد بهم أهل التوحيد : يعني أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع ، والجزع ، والمنع ، وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضية ؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات ، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بينهم سبحانه فقال : الذين هم على صلاتهم دائمون أي : لا يشغلهم عنها شاغل ، ولا يصرفهم عنها صارف ، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن ، وابن جريج : هو التطوع منها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النخعي : المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة المكتوبة ، وقيل : الذين يصلونها لوقتها والمراد بالآية جميع المؤمنين ، وقيل : الصحابة خاصة ، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين في أموالهم حق معلوم قال قتادة ، ومحمد بن سيرين : المراد الزكاة المفروضة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد : سوى الزكاة ، وقيل : صلة الرحم ، والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوما ولجعله قرينا للصلاة ، وقد تقدم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يصدقون بيوم الدين أي : بيوم الجزاء ، وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه ، وقيل : يصدقونه بأعمالهم فيتعبون أنفسهم في الطاعات .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين هم من عذاب ربهم مشفقون أي : خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقارا لأعمالهم ، واعترافا بما يجب لله سبحانه عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وجملة إن عذاب ربهم غير مأمون مقررة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد ، وأن حق كل أحد أن يخافه .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين هم لفروجهم حافظون إلى قوله : فأولئك هم العادون قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون أي : لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها ولا ينقضون شيئا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور لأماناتهم بالجمع . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن : " لأمانتهم " بالإفراد ، والمراد الجنس .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين هم بشهاداتهم قائمون أي : يقيمونها على من كانت عليه من قريب أو بعيد أو رفيع أو وضيع ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها ، وقد تقدم القول في الشهادة من سورة البقرة ، قرأ الجمهور " بشهادتهم " بالإفراد ، وقرأ حفص ، ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الواحدي ، والإفراد أولى لأنه مصدر ، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى : وأقيموا الشهادة لله [ الطلاق : 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين هم على صلاتهم يحافظون أي : على أذكارها وأركانها وشرائطها لا يخلون بشيء من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جريج : المراد التطوع ، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أولا ، وما وصفهم به ثانيا ، فإن معنى الدوام : هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل كما سلف ، ومعنى المحافظة : أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها ، وقيل : المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها ، وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بقوله : أولئك إلى الموصوفين بتلك الصفات في جنات مكرمون أي : مستقرون فيها مكرمون بأنواع الكرامات ، وخبر المبتدأ قوله : في جنات وقوله : مكرمون خبر آخر ، ويجوز أن يكون الخبر " مكرمون " ، و " في جنات " متعلق به .

                                                                                                                                                                                                                                      فمال الذين كفروا قبلك مهطعين أي : أي شيء لهم حواليك مسرعين . قال الأخفش : مهطعين : مسرعين ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      بمكة أهلها ولقد أراهم     إليهم مهطعين إلى السماع

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم ، وقيل : ما بالهم مسرعين إلى التكذيب ، وقيل : ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك فيكذبونك ويستهزئون بك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي : إن المعنى : مهطعين ناظرين إليك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : عامدين ، وقيل : مسرعين إليك مادي أعناقهم مديمي النظر إليك .

                                                                                                                                                                                                                                      عن اليمين وعن الشمال عزين أي : عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة ، و " عزين " جمع عزة ، وهي العصبة من الناس ، ومنه قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1532 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ترانا عنده والليل داج     على أبوابه حلقا عزينا

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراعي :


                                                                                                                                                                                                                                      أخليفة الرحمن إن عشيرتي     أمسى سراتهم إليك عزينا

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عنترة :


                                                                                                                                                                                                                                      وقرن قد تركت لدى ولي     عليه الطير كالعصب العزينا

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : أصلها عزوة من العزو ، كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في الصحاح : والعزة : الفرقة من الناس ، والهاء عوض من التاء ، والجمع عزي وعزون ، وقوله : عن اليمين وعن الشمال متعلق بعزين ، أو بمهطعين .

                                                                                                                                                                                                                                      أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم قال المفسرون : كان المشركون يقولون لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلن قبلهم ، فنزلت الآية ، قرأ الجمهورأن يدخل مبنيا للمفعول .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وطلحة بن مصرف ، والأعرج ، ويحيى بن يعمر ، وأبو رجاء ، وعاصم في رواية عنه على البناء للفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم رد الله سبحانه عليهم فقال : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون أي : من القذر الذين يعلمون به فلا ينبغي لهم هذا التكبر ، وقيل : المعنى : إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون ، وهو امتثال الأمر والنهي وتعريضهم للثواب والعقاب كما في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، [ الذاريات : 56 ] ومنه قول الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      أأزمعت من آل ليلى ابتكارا     وشطت على ذي هوى أن يزارا

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن الهلوع ، فقال : هو كما قال الله : إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عنه هلوعا قال : الشره .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود الذين هم على صلاتهم دائمون قال : على مواقيتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن عمران بن حصين الذين هم على صلاتهم دائمون قال : الذي لا يلتفت في صلاته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عقبة بن عامر الذين هم على صلاتهم دائمون قال : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن ابن عباس فمال الذين كفروا قبلك مهطعين قال : ينظرون عن اليمين وعن الشمال عزين قال : العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج مسلم وغيره عن جابر قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون فقال : ما لي أراكم عزين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن سعد ، وابن أبي عاصم ، والباوردي ، وابن قانع ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، والضياء عن بسر بن جحاش قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمال الذين كفروا قبلك مهطعين إلى قوله : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفه ووضع عليها أصبعه وقال : يقول الله : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أوأتى أوان الصدقة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية