الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 69 ] 802 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ما ذكره النعمان بن بشير عنه من نحله أبيه إياه شيئا ، ومن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له لما أشهده على ذلك :" أكل ولدك نحلت مثل هذا ؟ " ، قال : لا . قال : " فارجعه " .

5070 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا الزهري ، عن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن ، أخبراه : أنهما سمعا النعمان بن بشير ، يقول : نحلني أبي غلاما ، فأمرتني أمي أن أذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشهده على ذلك ، فقال : أكل ولدك أعطيته ؟ " فقال : لا . فقال : " اردده .

[ ص: 70 ]

5071 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، وعن محمد بن النعمان بن بشير ، يحدثانه ، عن النعمان بن بشير ، قال : إن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ " فقال : لا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فارجعه .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيرا بأن يرد ما أعطى النعمان لما أعلمه أنه لم يعط من سواه من ولده مثل ما أعطاه إياه من ذلك ، والنعمان يومئذ فكان صغيرا لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك ، فكان أبوه قابضا له من نفسه ما نحله إياه ، وفي ذلك وجوب خروجه من ملكه إلى ملك النعمان ابنه .

[ ص: 71 ] فتأملنا هذا الحديث هل رواه عن النعمان غير حميد بن عبد الرحمن وغير ابنه محمد بن النعمان ، بخلاف ما روياه عليه عنه ، أم لا . ؟

5072 - فوجدنا نصر بن مرزوق قد حدثنا ، قال : حدثنا الخصيب بن ناصح الحارثي ، قال : حدثنا وهيب بن خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، قال : انطلق أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحلني نحلا ليشهده على ذلك ، قال : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ " فقال : لا . قال : " أيسرك أن يكونوا إليك في البر كلهم سواء ؟ " قال : بلى . قال : " فأشهد على هذا غيري .

قال أبو جعفر : فكان ذلك عندنا - والله أعلم - على الوعيد الذي ظاهره ظاهر الأمر ، وباطنه الزجر ، كقول الله - عز وجل - في كتابه : [ ص: 72 ] اعملوا ما شئتم ، وقد روي هذا أيضا عن الشعبي بمعنى زائد على هذا المعنى رواه عليه عنه داود .

5073 - كما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا ورقاء ، عن المغيرة ، عن الشعبي ، قال : سمعت النعمان على منبرنا هذا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر .

5074 - وكما حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن الشعبي ، قال : سمعت النعمان بن بشير ، يقول : أعطاني أبي عطية ، فقالت أمي عمرة ابنة رواحة ، لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى رسول الله ، فقال : إني قد أعطيت ابني من عمرة عطية ، وإني أشهدك ، قال أكل ولدك أعطيت مثل هذا ؟ قال : لا . قال : فاتقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم .

[ ص: 73 ]

5075 - وكما حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي ، قال : حدثنا مرجى بن رجاء ، قال : حدثنا داود - يعني ابن أبي هند - عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير ، قال : انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله : اشهد أني قد نحلت النعمان من مالي كذا وكذا . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكل ولدك نحلت ؟ " قال : لا . قال : " أما يسرك أن يكونوا لك في البر سواء " ؟ قال: بلى . قال : " فلا إذا .

قال أبو جعفر : فكان فيما روينا كراهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بشير ما كان منه في اختصاصه ابنه النعمان بما اختصه به من ماله دون سائر ولده ، وأمره إياه مع ذلك بالعدل بين أولاده ، وليس في شيء من ذلك ذكر لرد ما نحله إياه ، فقد خالف هذا ما رويناه قبله في الفصل الأول من هذا الباب .

ثم نظرنا هل روى هذا الحديث عن النعمان غير من ذكرنا . ؟ [ ص: 74 ]

5076 - فوجدنا فهد بن سليمان قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو نعيم .

5077 - ووجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، ثم اجتمعا جميعا ، فقالا : عن فطر بن خليفة ، قال : حدثنا أبو الضحى ، قال : سمعت النعمان بن بشير ، يقول : ذهب بي أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشهده على شيء أعطانيه ، فقال: ألك ولد غيره ؟ " قال : نعم . فقال بيده : " ألا سويت بينهم ؟ " .

فكان ما في هذا الحديث أيضا مخالفا لما رواه عليه حميد ومحمد بن النعمان عن النعمان ، فعقلنا بذلك أن معنى ما في حديث نصر بن مرزوق : " أشهد على هذا غيري " ، إنما كان على الوعيد الذي فيه التحذير له من السبب الذي يخالف بين أولاده في البر به في الانحراف عنه ; لتفضيله غيره منهم عليه فيما أعطاه إياه ، مع تساويهم [ ص: 75 ] في مواضعهم منه .

غير أنه قد روى هذا الحديث عن الشعبي ، عن النعمان غير من ذكرنا ، بزيادة على ما رواه عليه عنه ، عن النعمان من ذكرنا .

5078 - كما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا مجالد وآخر ، قال : سمعت الشعبي يقول : سمعت النعمان بن بشير - وكان أميرا على الكوفة - يقول : نحلني أبي غلاما ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهده ، فقال : أكل ولدك أعطيته ؟ " قال : لا . قال : " لا أشهد إلا على حق .

فكان معنى هذا الحديث أيضا قد دل على ما ذكرنا ; لأن ما دعا من الأولاد أو من بعضهم إلى التقصير في بر أبيهم ضد للحق الذي ينبغي أن تجري الأمور عليه .

5079 - وقد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا أبو حيان ، عن الشعبي ، قال : حدثني النعمان بن بشير الأنصاري : أن أمه ابنة رواحة سألت أباه [ ص: 76 ] بعض الموهبة من ماله لابنها ، فالتوى بها سنة ، ثم بدا له فوهبها له ، فقالت : لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما وهبت لابني ، فأخذ أبي بيدي ، وأنا غلام يومئذ ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن أم هذا ابنة رواحة قاتلتني منذ سنة على بعض الموهبة من مالي لابني هذا ، وقد بدا لي ، فوهبتها له ، وقد أعجبها أن تشهدك على الذي وهبت له . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا بشير لك ولد سوى هذا ؟ " . قال : نعم .فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفكلهم وهبت لهم مثل الذي وهبت لابنك هذا ؟ قال : لا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " فلا تشهدني إذا ، فإني لا أشهد على جور .

فعقلنا بذلك أن معنى قوله فيما قد رويناه في غير هذا الحديث في هذا الباب : " أشهد على هذا غيري " إنما كان على الوعيد ، لا على إطلاقه له أن يشهد عليه غيره شهادة يجوز له بها ما أعطاه .

ثم نظرنا : هل روى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير النعمان ؟ فوجدنا جابر بن عبد الله قد رواه عنه - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما رواه النعمان عليه عنه .

[ ص: 77 ]

5080 - كما حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا عمرو بن خالد ( ح ) ، وكما حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، ثم اجتمعا ، فقال كل واحد منهما ، قال : حدثنا زهير بن معاوية الجعفي ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : قالت امرأة بشير لبشير : انحل ابني غلامك ، وأشهد لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي ، وقالت : أشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : " أله إخوة " ؟ قال : نعم . قال : " أفكلهم أعطيته ؟ " قال : لا . قال : فإن هذا لا يصلح ، وإني لا أشهد إلا على حق .

فكان الذي في هذا الحديث إخبار بشير النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤال امرأته إياه ما سألته أن ينحله ابنها ، وإشهاده على ذلك ، وأن الذي كان من جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان له في استرشاد أرشده ، لا في عطية كانت تقدمت منه قبل ذلك ، وكان هذا من جابر أولى بما في هذه الآثار لموضع جابر من السن والعلم وجلالة مقداره فيه ; ولأن النعمان كان يومئذ صغيرا ، ليس معه من الضبط لما سمعه مثل ما مع جابر في ذلك ، مع أنه قد روى شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، عن [ ص: 78 ] حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان ، عن النعمان هذا الحديث بمعنى يدل على ما رواه عليه جابر .

5081 - كما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : سمعت حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان أنهما سمعا النعمان بن بشير ، يقول : نحلني أبي غلاما ثم مشى بي حتى أدخلني على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني نحلت ابني غلاما ، فإن أذنت لي أن أجيزه له أجزته ، ثم ذكر بقية الحديث على ما ذكرناه من حديث مالك وسفيان في أول هذا الباب .

فدل ذلك أن نحله إياه لم يكن نحلا باتا ، وأنه كان نحلا منتظرا فيه ما يقوله رسول الله فيه من إمضاء له أو من ما سوى ذلك .

فقال قائل : وكيف يجوز أن يطلق في هذا ذكر نحل لا حقيقة معه ؟ فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أن ذلك كان لسعة لغة العرب ; ولأنهم قد يجيزون بكون الأشياء لقرب كونها ، وإن لم تكن في الحقيقة قد كانت ، ومن ذلك قول الله - عز وجل : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ ص: 79 ] بمعنى : وإذا أردت أن تقرأ القرآن ، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، ومن ذلك تسميتهم المأمور بذبحه من ابني إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ذبيحا ، ليس لأنه ذبح ; ولكن لقربه من الذبح ، ومثل هذا في كلامهم كثير ، فقد بان بحمد الله ونعمته : أن لا اختلاف فيما روى جابر ، ولا فيما روى النعمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب .

وبعد هذا فقد اختلف أهل العلم في التعديل بين الأولاد في مثل هذا ، فقال بعضهم : هو على التسوية بين ذكورهم وإناثهم في ذلك ، وممن ذهب إلى ذلك منهم : أبو يوسف .

وذهب بعضهم إلى أنه إجراؤهم على سبيل المواريث التي ورثهم الله - عز وجل - بها أموال آبائهم ، وممن ذهب إلى ذلك محمد بن الحسن .

وكان القول عندنا في ذلك ما ذهب إليه أبو يوسف فيه ; لأن ذلك قد رد في هذه الآثار إلى معنى البر من الأولاد لآبائهم ، والذي يراد من إناثهم في ذلك ، كالذي يراد من ذكرانهم ، ولم يبن لنا في شيء من هذه الآثار أن للوالد إذا وهب لولده هبة تمت منه له ، وإن كان قد خالف فيها ما أمر به في أولاده أن له أن يرجع فيها ، ولا أن يبطلها ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية