الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيما يعطى مسكين واحد من الزكاة كان أبو حنيفة يكره أن يعطى إنسان من الزكاة مائتي درهم ، وإن أعطيته أجزاك ولا بأس بأن تعطيه أقل من مائتي درهم ، قال : { وأن يغني بها إنسانا أحب إلي } .

وروى هشام عن أبي يوسف في رجل له مائة وتسعة وتسعون درهما فتصدق عليه بدرهمين : { أنه يقبل واحدا [ ص: 343 ] ويرد واحدا } فقد أجاز له أن يقبل تمام المائتين ، وكره أن يقبل ما فوقها ، وأما مالك بن أنس فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد من غير توقيف ، وقول ابن شبرمة فيه كقول أبي حنيفة ، وقال الثوري : لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما وهو قول الحسن بن صالح ، وقال الليث : يعطى مقدار ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال ، والزكاة كثيرة . ولم يحد الشافعي شيئا ، واعتبر ما يرفع الحاجة . قال أبو بكر : قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين ليس فيه تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم ، وقد علمنا أنه لم يرد به تفريقها على الفقراء على عدد الرءوس لامتناع ذلك وتعذره ، فثبت أن المراد دفعها إلى بعض أي بعض كان ، وأقلهم واحد ، ومعلوم أن كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد قل المدفوع أو كثر ، فوجب بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير من الزكاة إلى واحد من الفقراء من غير تحديد لمقداره . وأيضا فإن الدفع والتمليك يصادفانه ، وهو فقير ، فلا فرق بين دفع القليل والكثير لحصول التمليك في الحالتين للفقير ، وإنما كره أبو حنيفة أن يعطى إنسان مائتي درهم ؛ لأن المائتين هي النصاب الكامل فيكون غنيا مع تمام ملك الصدقة ، ومعلوم أن الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ، ويتملكوها ، فلا يحصل له التمكين من الانتفاع إلا ، وهو غني ؛ فكره من أجل ذلك دفع نصاب كامل ، ومتى دفع إليه أقل من النصاب فإنه يملكه ، ويحصل له الانتفاع بها ، وهو فقير فلم يكرهه ، إذ القليل والكثير سواء في هذا الوجه إذا لم يصر غنيا ، فالنصاب عند وقوع التمليك والتمكين من الانتفاع . وأما قول أبي حنيفة : { وأن يغني بها إنسانا أحب إلي } فإنه لم يرد به الغنى الذي تجب عليه به الزكاة ، وإنما أراد أن يعطيه ما يستغني به عن المسألة ويكف به وجهه ويتصرف به في ضرب من المعاش .

واختلف فيمن أعطى زكاته رجلا ظاهره الفقر فأعطاه على ذلك ثم تبين أنه غني فقال أبو حنيفة ومحمد : { يجزيه ، وكذلك إن دفعها إلى ابنه أو إلى ذمي ، وهو لا يعلم ثم علم أنه يجزيه } . وقال أبو يوسف : { لا يجزيه } ذهب أبو حنيفة في ذلك إلى ما روي في حديث معن بن يزيد أن أباه أخرج صدقة فدفعها إليه ليلا ، وهو لا يعرفه فلما أصبح وقف عليه فقال : ما إياك أردت ، واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : لك ما نويت يا يزيد ، وقال لمعن : لك ما أخذت ، ولم يسأله أنويتها من الزكاة أو غيرها بل قال : لك ما نويت ، فدل على جوازها إن نواها زكاة ، [ ص: 344 ] وأيضا فإن الصدقة على هؤلاء قد تكون صدقة صحيحة من وجه في غير حال الضرورة ، وهو أن يتصدق عليهم صدقة التطوع ، فأشبهت من هذا الوجه الصلاة إلى الكعبة إذا أداها باجتهاد صحيح ثم تبين أنه أخطأها كانت صلاته ماضية ، إذ كانت الصلاة إلى غير جهة الكعبة قد تكون صلاة صحيحة من غير ضرورة ، وهو المصلي تطوعا على الراحلة ، فكان إعطاء الزكاة باجتهاد مشبها لأداء الصلاة باجتهاد على النحو الذي ذكرنا .

فإن قيل : إنما يشبه مسألة الزكاة من توضأ بماء يظنه طاهرا ثم علم أنه كان نجسا فلا تجزيه صلاته ؛ لأنه صار من اجتهاد إلى يقين ، كذلك مؤدي الزكاة إلى غني أو ابنه أو ذمي إذا علم فقد صار من اجتهاد إلى يقين ، فبطل حكم اجتهاده ووجبت عليه الإعادة . قيل له : ليس كذلك ؛ لأن الوضوء بالماء النجس لا يكون طهارة بحال فلم يكن للاجتهاد تأثير في جوازه ، وترك القبلة جائز في أحوال ، فمسألتنا بما ذكرناه أشبه .

فإن قيل : الصلاة قد تجوز في الثوب النجس في حال ، ومع ذلك فلو أداها باجتهاد منه في طهارة الثوب ثم تبين النجاسة بطلت صلاته ، ووجبت عليه الإعادة ، ولم يكن جواز الصلاة في الثوب النجس بحال موجبا لجواز أدائها بالاجتهاد متى صار إلى يقين النجاسة . قيل له : أغفلت معنى اعتلالنا ؛ لأنا قلنا إن ترك القبلة جائز من غير ضرورة كجواز إعطاء هؤلاء من صدقة التطوع من غير ضرورة فكانا متساويين من هذا الوجه ، ألا ترى أنه لا ضرورة بالمصلي على الراحلة في فعل التطوع كما لا ضرورة بالمتصدق صدقة التطوع على ما ذكرنا ؟ فلما استويا من هذا الوجه اشتبها في الحكم ، وأما الصلاة في الثوب النجس فغير جائزة إلا في حال الضرورة ، ويستوي فيه حكم مصلي الفرض أو متنفل ، فلذلك اختلفا .

التالي السابق


الخدمات العلمية