الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 80 ] 803 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضرير في بصره ، هل عليه حضور الجماعات كما على من سواه ممن لا ضرر ببصره ، أم لا ؟

5082 - حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني ، قال : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري ، يحدث عن محمود بن ربيع ، عن عتبان بن مالك ، قال : قلت : يا رسول الله ، إني رجل محجوب البصر ، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد ، فهل لي من عذر ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل تسمع النداء ؟ " فقال : نعم . فقال : ما أجد لك عذرا إذا سمعت النداء . قال سفيان : وفيه قصة لم أحفظها .

قال أبو جعفر : سمعت المزني يقول : قال الشافعي : ولم أره استجلس الناس في حديث قط إلا هذا ، وحديثه: " يا بقايا العرب " ، [ ص: 81 ] وكان سفيان يتوقاه ويعرف أنه لا يضبطه .

5083 - قال أبو جعفر : سمعت المزني يقول : قال الشافعي : وقد أوهم فيه فيما نرى ، والدلالة على ذلك - والله أعلم - أن مالكا أخبرنا ، عن ابن شهاب ، عن محمود بن الربيع ، أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه ، وهو أعمى ، وأنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها تكون الظلمة والمطر والسيل ، وأنا رجل ضرير البصر ، فصل يا رسول الله في بيتي في مكان أتخذه مصلى . فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أين تحب أن أصلي ؟ " . فأشار له إلى مكان من البيت ، فصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث مما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعتبان لما أعلمه أنه سمع النداء : " ما أجد لك عذرا " ، يعني في ترك حضور الصلوات في الجماعات ، غير أن هذا المعنى لم نجده في غير هذا الحديث من رواية عن سفيان غير الشافعي .

5084 - وقد حدثناه يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، قال : عن محمود ، إن شاء الله : أن عتبان بن مالك الأنصاري كان رجلا محجوب البصر ، وأنه ذكر [ ص: 82 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - الخلف عن الصلاة ، فقال : هل تسمع النداء ؟ " قال : نعم . فلم يرخص له .

وقد وجدنا هذا الحديث أيضا من رواية عقيل ، عن الزهري موافقا لما رواه مالك ، عن الزهري ، ومخالفا لما رواه سفيان عن الزهري .

5085 - كما حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري : أن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا من الأنصار - : أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، قد أنكرت بصري ، وإني أصلي لقومي ، فإذا كانت الأمطار ، سال الوادي الذي بيني وبينهم ، لم أستطع أن آتي مسجدهم ، فأصلي لهم ، فوددت يا رسول الله أنك تأتي فتصلي في بيتي ، فأتخذه مصلى . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سأفعل إن شاء الله " .

قال عتبان : فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار ، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له ، فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : أين تحب أن أصلي ؟ فأشرت إلى ناحية من البيت ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمنا ، فصففنا ، فصلى ركعتين ، ثم سلم
.

[ ص: 83 ] فعاد هذا الحديث منقطعا ، فلم يكن مما يحتج في هذا الباب بمثله .

ثم نظرنا : هل روي في هذا الباب غير هذا الحديث . ؟

5086 - فوجدنا يوسف بن يزيد قد حدثنا ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد ، قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عمرو بن أم مكتوم ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول [ ص: 84 ] الله ، إني شيخ ضرير البصر ، شاسع الدار ، ولي قائد لا يلائمني ، وبيني وبين المسجد شجر وأنهار ، فهل لي من عذر أن أصلي في بيتي ؟ فقال : هل تسمع النداء ؟ " قلت : نعم . قال : " فأتها .

قال أبو جعفر : فكان هذا الحديث من أحسن ما وجدناه في هذا الباب ; لأن زر بن حبيش قد سمع من عمر بن الخطاب ، ومن أبي بن كعب ، فليس بمستنكر منه سماع هذا الحديث من ابن أم مكتوم ; لأنه قد بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضر فتح القادسية ، وكان حامل الراية يومئذ لأهلها .

[ ص: 85 ] ووجدنا في هذا الباب أيضا .

5087 - ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي ، قال : أخبرنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ، قال : حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن شداد ، عن عبد الله بن أم مكتوم ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد ، فرأى في الناس رقة ، فقال : إني لأهم أن أجعل للناس إماما ، ثم أخرج ، فلا أقدر على رجل تخلف في بيته عن الصلاة ، إلا أحرقت عليه ". فقلت: يا رسول الله ، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا ، وليس كل حين أقدر على قائد ، أفأصلي في بيتي ؟ قال : " تسمع الإقامة ؟ " قلت : نعم . قال : " فأتها .

[ ص: 86 ] قال : فطعن طاعن في إسناد هذا الحديث ، ونفى أن يكون سماعا لعبد الله بن شداد من ابن أم مكتوم ، فتأملنا ذلك ، فوجدنا عبد الله بن شداد قد سمع من عمر بن الخطاب ، ومن سمع من عمر كان غير مستنكر منه سماعه من ابن أم مكتوم .

وذكر بعض الطاعنين في إسناد هذا الحديث : أن شعبة قد رواه عن حصين ، فخالف عبد العزيز فيه ، وذكر .

5088 - ما قد حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الرصاصي ، قال : حدثنا شعبة ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد : أن ابن أم مكتوم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن بيني وبين المسجد أشياء ، وربما وجدت قائدا ، وربما لم أجد قائدا . قال : " ألست تسمع النداء ؟ فإذا سمعت النداء فامش إليها " . ثم سأله رجل آخر عن مثل ذلك ، فقال : " إذا سمعت النداء فآذن " . وما رخص له ، ثم قال : لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ، ثم آتي أقواما لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم .

قال هذا الطاعن : فهذا شعبة إنما روى هذا الحديث عن حصين ، فقال فيه : إن ابن أم مكتوم ، ولم يقل فيه كما قال عبد العزيز : عن ابن أم مكتوم .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه قد يحتمل [ ص: 87 ] أن يكون ذلك من اختلاف شعبة وعبد العزيز على حصين ; لأن حصينا حدث به مرة هكذا ، ومرة هكذا ، وكل واحد من شعبة ومن عبد العزيز إمام حافظ حجة ، ممن إذا تفرد بشيء كان مقبولا منه ، ومن كان كذلك وجب أن يكون ما روى مما قد خولف فيه بمثل ما قد ذكرنا ، لا يحمل على الوهم منه ، فيما روى ، ما لم تقم الحجة بذلك .

5089 - وقد وجدنا في هذا الباب أيضا ما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان - يعني الواسطي - قال : حدثنا إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - قال : حدثنا أبو سنان - يعني سعيد بن سنان الشيباني المعروف بالقزويني - عن عمرو بن مرة ، قال : حدثني أبو رزين ، عن أبي هريرة ، قال : جاء ابن أم مكتوم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني رجل ضرير ، شاسع الدار ، وليس لي قائد يلائمني ، أفلي رخصة أن لا آتي المسجد ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا .

[ ص: 88 ] فطعن طاعن في إسناد هذا الحديث أيضا بأن قال : قد رواه شعبة عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، ولم يتجاوزه به .

5090 - وذكر ما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى ، يقول : كان رجل منا ضرير البصر ، فقال : يا رسول الله ، إن بيني وبين المسجد نخلا . فقال رسول الله : " أتسمع النداء ؟ " فقال : نعم . قال : فإذا سمعت النداء فآذنه . قال : فدل ذلك أن أصل هذا الحديث إنما هو عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى منقطعا ، لا عن عمرو ، عن أبي رزين ، عن أبي هريرة .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - جل وعز وعونه - : أنه قد ذهب عليه في هذين الحديثين ما لم يكن ينبغي له مع ذلك أن يعجل بما عجل به فيهما ; لأن حديث شعبة ، عن عمرو ، عن ابن أبي ليلى فيه : [ ص: 89 ] قال : كان رجل منا ضرير البصر ، فكان ذلك إخبارا منه عن رجل منهم ، يريد الأنصار ; لأنه منهم ، والحديث الأول رواه أبو سنان ، عن عمرو ، عن أبي رزين ، عن أبي هريرة ، هو في ابن أم مكتوم ، وهو رجل من قريش ، لا من الأنصار .

فعقلنا بذلك : أنهما حديثان في رجلين مختلفين ، مع وقوفنا على ثبت أبي سنان هذا في روايته واستقامته فيها ، وقبول الأئمة إياها منه ، ثم نظرنا في محمود بن الربيع : هل يتهيأ من مثله لقاء عتبان بن مالك ، أم لا ؟ .

5091 - فوجدنا أبا أمية قد حدثنا ، قال : حدثنا الحسين بن محمد المروزي ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن علي بن زيد بن جدعان ، قال : حدثني أبو بكر بن أنس بن مالك ، قال : قدم أبي من الشام وافدا وأنا معه ، فلقينا محمود بن الربيع ، فحدث أبي ، عن عتبان بن مالك ، فقال أبي : احفظ هذا الحديث ، فإنه من كنوز الحديث . فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة ، فسألت عنه ، فإذا هو حي ، وإذا شيخ أعمى كأنه يعني عتبان بن مالك ، فسألته عن الحديث ، فقال : نعم ، ذهب بصري على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، ذهب بصري ، ولا أستطيع الصلاة خلفك ، فلو بوأت لي في داري مسجدا صليت فيه فأتخذه مصلى . قال : " نعم ، فإني غاد إليك غدا " . فلما صلى من الغد التفت إليه ، وقام حتى أتى ، فقال : يا عتبان أين تحب أن أبوئ لك ؟ " قال : فوصفت له مكانا ، فبوأ له [ ص: 90 ] وصلى فيه . فإن ثقل هذا الحديث على بعض الناس لمكان علي بن زيد .

5092 - فإنه قد حدثناه حسين بن نصر ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سليمان التيمي ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : حدثنا محمود بن الربيع ، عن عتبان بن مالك ، قال أنس : فلقيت عتبان ، فحدثني به ، فأعجبني ، فقلت لابني : اكتبه فكتبه . [ ص: 91 ] فكان في هذا عود هذا الحديث إلى موافقة سليمان التيمي علي بن زيد عليه ، وكانت رواية محمود إياه عن عتبان غير مستنكرة ، وكان في ذلك وجوب العذر لابن عيينة فيما رواه عن الزهري ، عن محمود عليه ، ولما قام بهذه الآثار ، أو بما قام منها ، ما قد ذكرنا من وجوب حضور الجماعات على الضرير في بصره كما يجب على الصحيح في بصره ، وكان هذا الباب مما قد اختلف فيه أهل العلم فقالت طائفة منهم بوجوب حضور الجماعات على الضرير كوجوبها على الصحيح ، وجعلوه كمن لا يعرف الطريق ، فلم يعذر بجهله إياه عن التخلف عن حضور الجماعة لذلك ، وقد عذره آخرون في ترك حضور الجماعة ، وقد روي القولان جميعا عن أبي حنيفة ، غير أن الصحيح عندنا عنه هو وجوب حضورها عليه ، وإلى ذلك كان يذهب محمد بن الحسن ، ولا يحكي فيه خلافا بينه وبين أحد من أصحابه ، وقد خاطب ابن أم مكتوم [ ص: 92 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تلا على الناس : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله قبل إنزال الله - عز وجل - عليه في الآية : غير أولي الضرر بأن قال له : لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فلم ينكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل له : إنك أعمى ولا فرض في ذلك على الأعمى .

وفيما ذكرنا من ذلك دليل على أن ما يستطيعه الأعمى من العمى ، يكون فيه كالصحيح الذي لا عمى به ، وإذا كان الأعمى في حضور الجماعات كما ذكرنا كان في وجوب الحج عليه إذا وجد إليه سبيلا ، ووجد ما يبلغه به من نفقة ومن موصل له إليه كغير الأعمى والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية