الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( رحمه الله ) وإذا ارتهن الرجل قلب فضة فيه عشرة دراهم بعشرة دراهم فهذه المسألة على ثلاثة أوجه : إما أن يكون قيمته مثل وزنه عشرة ، أو : قيمته أقل من وزنه ثمانية أو : قيمته أكثر من ، وزنه اثني عشر ، وكل وجه من ذلك على ، وجهين : إما أن يهلك القلب ، أو ينكسر ، أما إذا كانت قيمته مثل وزنه ، فإن هلك القلب سقط حق المرتهن ; لأن في وزنه ، وقيمته وفاء [ ص: 116 ] بالدين فيصير المرتهن مستوفيا كمال حقه بهلاكه ، وإن انكسر ، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف ( رحمهما الله ) : يضمن المرتهن قيمته إن شاء من جنسه ، وإن شاء من خلاف جنسه ; لأنه لا يمكن فيه الربا ، ويكون ما ضمنه رهنا عنده إلى أن يحل أجل الدين ثم يستوفيه ضامن حقه ، والمكسور مملوك له بالضمان ، وعند محمد ( رحمه الله ) يخير الراهن إن شاء سلم المكسور للمرتهن بدينه ، وإن شاء افتكه ببعض الدين ، وروى أصحاب ( الإملاء ) عن أبي يوسف .

وعن أبي حنيفة ( رحمهما الله ) أن الراهن يجبر على افتكاك اقتضاء جميع الدين ، وليس له أن يضمن المرتهن شيئا ، والأصل عند محمد ( رحمه الله ) أن حالة الانكسار معتبرة بحالة الهلاك ، والقلب عند الهلاك في هذا الفصل مضمون بالدين دون القيمة ، فكذلك عند الانكسار ; لأن ضمان القيمة يوجب الملك في المضمون للضامن ، وضمان الدين لا يوجب ذلك ، وسبب كل واحد من الضامنين القبض ، ولا يجوز أن يتعلق بشيء واحد ضمانان من جنسين مختلفين فعند تعذر الجمع بينهما لا بد أن يكون الثابت أحدهما وبالإجماع في حالة الهلاك : القلب مضمون بالدين هنا ، فكذلك في حالة الانكسار .

( ألا ترى ) أن المبيع لما كان مضمونا بالثمن استوى فيه حالة الهلاك ، وحالة الانكسار ، والمغصوب لما كان مضمونا بالقيمة استوى فيه حالة الهلاك ، وحالة الانكسار ، فهذه مثله إلا أن عند الهلاك يتم الاستيفاء حكما بين الوزن ; لأن الاستيفاء يكون من المالية ، والمالية في مال الربا عند المقابلة بالجنس يكون بقدر الوزن ، والكيل فأما عند الانكسار فلا يتم الاستيفاء لبقاء الوزن ، ولكنه يتخير الراهن إن شاء سلم المكسور للمرتهن ، وجعله في حكم الهلاك فيتم الاستيفاء ، وإن شاء افتكه بقضاء الدين ، كما إذا انكسر القلب المبيع يخير المشتري بين أن يأخذه ، ويؤدي جميع الثمن ، وبين أن يفسخ البيع ، ويجعله في حكم المستهلك وأبو حنيفة وأبو يوسف ( رحمهما الله ) قالا : ضمان الرهن ضمان استيفاء ، والاستيفاء يكون من المالية ، ومالية القلب باعتبار ، وزنه ، والوزن قائم بعد الانكسار من كل وجه ، فلا يمكن جعل المرتهن مستوفيا رضي به الراهن أو لم يرض ; لأن عند تسليم الراهن المكسور للمرتهن لا بد من القبول ; لأن المرتهن يمتلك المكسور ، وذلك ليس من حكم ضمان الاستيفاء إذا لم يهلك الرهن ، لا يملك المرتهن المرهون به ، ولهذا لو كان عبدا كان كفنه على الراهن ، وإذا تعذر جعل المرتهن مستوفيا قلنا : الراهن ما رضي بقبضه إلا على وجه يصير مستوفيا عند تعذر رده ، كما قبض فلا يكون راضيا بقبضه بدون هذا الشرط ، فالقلب في هذه الحال ، كالمقبوض بغير رضاه ، وهو المغصوب ، فيكون مضمونا بقيمته ، ويخير المالك بين [ ص: 117 ] أن يشترط المكسور ، ولا يبيعه بشيء ، وبين أن يضمنه قيمته ، ويملك المكسور بضمان القيمة ، وبهذا تبين أنا لا نثبت ضمانين باعتبار قبض واحد ، ولكن باعتبار قبضين معناه : أحدهما : قبض برضا المالك ، والآخر : قبض بغير رضاه ، وكالواحد منهما يعتبر في حالة أخرى ، وعلى الرواية الأخرى عند أبي حنيفة : لا يضمنه المرتهن شيئا ; لأن القبض بحكم الرهن يوجب ضمان الاستيفاء فقط ، والاستيفاء يكون من المالية ، وهو باعتبار الوزن ولم يفت شيء بالانكسار من الوزن ، إنما فاتت الصفة ، ولا قيمة للصفة في مال الربا عند المقابلة بجنسها ، وما لا قيمة له لا يكون مضمونا بحكم الرهن ، وفواته لا يسقط من الدين ، ولا يثبت الخيار للراهن ، كفوات الزيادة إذا لم يتمكن بحدوثها نقصان في الأصل .

وأما إذا كانت قيمة القلب أقل من وزنه فهلك فعند أبي حنيفة ( رحمه الله ) يصير المرتهن مستوفيا دينه ، وعلى قول أبي يوسف ومحمد ( رحمهما الله ) يضمن قيمته من خلاف جنسه كي لا يؤدي إلى الربا ، ولا يسقط شيء من الدين ; لأنه لا يمكن أن يجعل مستوفيا قدر قيمته من الدين ، فإن استيفاء العشرة بثمانية ربا ، ولا يمكن أن يجعل مستوفيا لجميع دينه باعتبار الوزن ; لأن فيه اعتبار حق المرتهن في الجودة ، وكما يجب مراعاة حقه في الوزن يجب مراعاة حقه في الجودة ، ألا ترى أن الراهن ، ولو أراد قضاء دينه بما هو دون حقه في الجودة لا يملك ذلك بغير رضا المرتهن فإذا تعذر جعله مستوفيا ، يجعل كالمقبوض بغير إذن المالك ، فيكون مضمونا بالقيمة على القابض إذا هلك وأبو حنيفة يقول : ضمان الرهن ضمان استيفاء ، والاستيفاء يكون بالوزن ، وفي القلب وفاء بالدين ، فيجعل مستوفيا كمال حقه في معنى : أنه لما قبض الرهن مع علمه بهلاك الرهن يصير مستوفيا دينه باعتبار الوزن ، فكأنه رضي بدون حقه في الجودة ، وهذه المسألة نظير مسألة ( الجامع الصغير ) إذا كان له على غيره عشرة جياد وستوق ، فهلك في يده ثم علم أن المستوفى كان زيوفا فعند أبي حنيفة ( رحمه الله ) يسقط حقه ، وعند أبي يوسف ( رحمه الله ) نضمنه مثل المقبوض ، ويرجع بحقه .

ذكر قول محمد في تلك المسألة ، كقول أبي حنيفة قال : عيسى ، وهو قوله الأول ، أما قول الآخر فكقول أبي يوسف ( رحمه الله ) على قياس ما ذكره في ( كتاب الرهن ) إذ لا فرق بين النصيبين فإن الرهن مقبوض فيكون بمنزلة المقبوض بحقيقة الاستيفاء ، وهناك المستوفى إذا تعذر رده للهلاك سقط حقه ، ولا يرجع بشيء عند أبي حنيفة لمكان الجودة ، فكذلك في الرهن - وعندهما - هناك يضمن مثل المستوفي ، ومقام رد المثل مقام رد العين لمراعاة حقه في الجودة ، فكذلك في الرهن ، [ ص: 118 ] فإن قيل : كيف يستقيم هذا البناء ، وهناك عند القبض لو كان عالما بصفة المستوفى سقط حقه عندهم جميعا ، وهنا عند قبض الرهن هو عالم برداءة المقبوض ؟ قلنا : نعم ولكن عند قبض الرهن ما كان يعلم أنه يهلك في يده فيصير مستوفيا به حقه ، وإنما يتم الاستيفاء هنا عند هلاك الرهن فبمجرد قبض الرهن لا يتم رضاه بسقوط حقه عند الجودة وعندهما بمنزلة ما لو قبضه لاستيفاء حقين ، ولا يعلم أنه دون حقه في الجودة ، ولو انكسر القلب هنا ضمنه المرتهن قيمته من خلاف جنسه ، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف ( رحمهما الله ) فظاهر ، وعند محمد حالة الانكسار معتبرة بحالة الهلاك ، وفي حالة الهلاك عنده في هذا الفصل : القلب مضمون بالقيمة دون الدين ، فكذلك عند الانكسار ، وإنما يضمنه قيمته من خلاف جنسه للتحرز عن الربا .

وأما إذا كانت قيمته اثني عشر ، فإنه إن هلك القلب سقط الدين عندهم جميعا ; لأن في الوزن وفاء بالدين ، وفي القيمة كذلك ، وزيادة القيمة على الدين كزيادة الوزن فيلغى ; فتكون تلك الزيادة أمانة ، ويصير مستوفيا كمال حقه بهلاك الرهن .

وذكر ابن سماعة : أن في قياس قول أبي يوسف يضمنه المرتهن قيمة خمسة أسداس القلب من خلاف جنسه ، ولا يسقط شيء من الدين ; لأنه لا يمكن أن يجعل مستوفيا دينه بجميع القلب ، فإن من أصله : أن الجودة لا تفصل عن الأصل في حكم الضمان ، وفي هذا إبطال حق الراهن عن الجودة ، فكما يراعى حق المرتهن في الجودة ، فكذلك يراعى حق الراهن ، ولا يمكن أن يجعل مستوفيا دينه بما يساوي عشرة من القلب ، وهو خمسة أسداسه ; لأن وزن ذلك ثمانية وثلث ، واستيفاء العشرة بثمانية وثلث يكون ربا ، فإذا تغير الاستيفاء قلنا : يضمن خمسة أسداس القلب من خلاف جنسه ، ويكون مرهونا بالدين ، ولكن الأول أصح لما بينا : أن زيادة الجودة لا تكون أعلى من زيادة الوزن ، والمرتهن آمن في تلك الزيادة ، فهلاكها في يده كهلاكها في يد الراهن .

وأما إذا انكسر القلب فعلى قول أبي حنيفة يضمن جميع القلب من خلاف جنسه ، ومن أصله أن المعتبر هو الوزن ، والصيغة تبع للوزن ، وليس للوزن هنا فضل على الدين ، فكان كله مضمونا بالدين ، وثبوت الحكم في التبع ، كثبوته في الأصل فمن ضرورة كون الأصل كله مضمونا ، أن تكون الجودة كلها مضمونة ، وحالة الانكسار ليست بحالة استيفاء الدين عنده ، فيكون ضامنا جميع القيمة من خلاف جنسه ، كما في المغصوب ، وروى بشر عن أبي يوسف ( رحمهما الله ) مثل هذه فأما ظاهر المذهب عند أبي يوسف فهو أن المرتهن يضمن قيمة خمسة أسداس القلب ، ويصير مملوكا له بالضمان ، وإنما نهي عنه للتحرز عن الشيوع في الرهن ، [ ص: 119 ] وقد بينا : أن الشيوع الطارئ في ظاهر الرواية كالشيوع المقارن ، وهذا ; لأن من أصل أبي يوسف أن الضمان ، والأمان تبع في الوزن ، والجودة ; لأن الجودة ، والصنعة لها حكم المالية مع الأصل ، ولهذا يعتبر من القلب في القلب الموصى به ، ولو باع الوصي قلب اليتيم بمثل ، وزنه لا يجوز ، ويجعل محاباته بالجودة ، والصنعة كمحاباته بالوزن ، وكذلك في القلب المغصوب باعتبار فوات الصنعة ، والجودة يصير الغاصب ضامنا ، وإذا تقرر هذا قلنا : خمسة أسداس القلب تصير مضمونة بجودته وصنعته ، وسدسه أمانة فالتغير بالانكسار فيما هو أمانة لا يعتبر فيما هو مضمون معتبر ، وحالة الانكسار ليست بحالة الاستيفاء عنده فيضمن قيمة خمسة أسداس من خلاف جنسه لهذه .

وأما عند محمد إن انتقص بالانكسار من قيمته درهم أو درهمان لجبر الراهن على الفكاك بقضاء جميع الدين ; لأن من أصله أن الضمان في الوزن ، والأمانة في الجودة والصنعة ، باعتبار أن الجودة ، والصنعة تابعة للوزن ، وأن الأمانة في المرهون كذلك فيجعل الأصل بمقابلة الأصل ، والتبع بمقابلة التبع ، وهذه ; لأن الصنعة مال من وجه كما قرره أبو يوسف : أنها مال تبعا للأصل ، ولكن ليس لها حكم المالية ، والتقوم منفردة عن الأصل ، كما أن حكم الرهن فيما هو أمانة ثابت من وجه وهو الحبس بالدين ، وليس بثابت في حكم الضمان فإذا كانت الأمانة هنا في الصنعة ، والجودة قلنا : إذا لم تنقص بالانكسار أكثر من درهمين ، فالثابت ما كان أمانة فيجبر الراهن على الفكاك ، وإن انتقص أكثر من ذلك فقد فات شيء من المضمون ، وحالة الانكسار عند محمد معتبرة بحالة الهلاك ، وفي هذا الفصل : عند الهلاك يصير مستوفيا دينه ، فكذلك عند الانكسار يكون مضمونا بالدين ، ويتخير الراهن ، كما بينا ، وسوى هذا فصلان آخران ، ينقسم الواحد منهما على عشرة أوجه .

وقد بينا ذلك فيما أنشأه من ( شرح الزيادات ) ، ولم يذكر محمد معناهما في هذا الباب فهذا لم يذكره هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية