الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ لا حاكم إلا الشرع ] إذا تبين أن الحكم خطاب الشرع فلا حاكم على المكلفين إلا الشرع خلافا للمعتزلة . حيث حكموا العقل ، وقد اختلفت العبارات عن حكاية مذهبهم . [ مذهب المعتزلة ] فقال إلكيا الطبري : قالت المعتزلة : العقل يوجب ، ولا يعنون هاهنا إيجاب العلة معلولها ، أو أن العقل يأمر ، فإن الاقتضاء منه غير معقول ، وهو عرض والأمر يستدعي الرتبة فإذن المعني به : أن العقل يعلم وجوب بعض الأفعال عليه ، والمعني بوجوبه علمه باقتران ضرر بتركه ، وإليه يرجع معنى الوجوب والحسن والقبح . وهذا منهم ادعاء العلم ضرورة على وجه يشترك العقلاء فيه [ ص: 176 ] ثم قال : وقد مال إلى ما ذكروه طوائف من القائلين بقدم العالم من حيث إن الذي يتعلق به نظام المعيشة وعمارة الدنيا هو أقرب إلى الاعتدال ، وحسن النظام من الذي يتضمن خراب الدنيا ، وهذا المذهب لا شك في بطلانه قطعا . وقال في موضع آخر : العقل يستقل بوجوب اتباع الرسل من حيث إن الاتباع تمحض نفعا لا يشوبه ضرر ، والامتناع من الاتباع محض ضرر . ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن يعلم أن الله تعالى أظهر المعجزة على يده ليصدقه . وهذا العلم يحصل عند المعتزلة من جهة أن الله لا يفعل القبيح ، وعند الأشعرية من جهة أنه لو لم يقدر ذلك لم تكن معرفة الصدق من جائزات العقل ، وذلك محال .

                                                      والذي يعلم بالشرع أنه مصلحة ونفع محض على ثلاثة أضرب : حكم ، وما يتعلق الحكم به من علة وتسبب ، والأدلة على علة الحكم . وقال ابن برهان : اعلم أن المعتزلة وإن أطلقوا أقوالهم بأن العقل يحسن ويقبح لم يريدوا به أنه يوجب الحسن والقبح ، فإن العقل عبارة عن بعض العلوم الضرورية ، والعلم لا يوجب المعلوم إيجاب العلة المعلول ، وإنما عنوا به أن العقل يكشف عن حسن الحسن وقبح القبيح . فعند ذلك انقسموا ، فمنهم من ذهب إلى أن الحسن حسن لذاته وكذا القبيح ، ومنهم من صار إلى أن قبح الصفة . وكذلك أصحابنا قالوا : إن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه ، وما عنوا به الإيجاب ، وإنما عنوا به أن الحسن هو المقول فيه : " لا تفعل " .

                                                      وقال في موضع آخر : عندنا لا حكم للعقل لكن نحن نقول : إن الأدلة العقلية حقائق ثابتة في أنفسها دالة على مدلولاتها ، ومقتضية أحكامها إلا [ ص: 177 ] أنا لا نعتقد ذلك ، والمعتزلة يعتقدون أن للعقل أحكاما . وهذا الخلاف بيننا وبينهم ، وأنكره بعض الناس ، وقال : النظر في الأدلة العقلية لا يوجب العلم بحال ، وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي : ذهبت المعتزلة والبراهمة إلى أن العقول طريق إلى معرفة الحسن ، والقبيح والواجب ، والمحظور ، ثم اختلفوا في وجه تعليق الحكم على العقل . فقالت المعتزلة : هو خاطر من قبل الله يدعوه إلى النظر والاستدلال . وشرع الرسل ما قبح في العقل كذبح البهائم وتسخير الحيوان وإتلافه . قالوا : وإنما حسن ورود الشرع به للغرض المقصود منه ، وخالفهم أبو هاشم ، وزعم أنه لولا ورود الشرع بذلك لم يكن معلوما جواز حسنه .

                                                      ثم اختلفوا في صفة الخاطر ، فقال النظام : هو جسم محسوس وأن الله تعالى يفعل خاطرا لطاعة ، وخاطرا لمعصية في قلب العاقل فيدعوه بأحد الخاطرين إلى طاعته ; ليفعلها ، ويدعوه بالآخر ليتركها ، وقال الجبائي : يدخل الشيطان في خرق أذن الإنسان إلى موضع سنه أو قلبه فيهمس ويتكلم بما يدعو إليه . قال : فالخاطر الذي من قبل الله كالعلم ونحوه [ ص: 178 ] وقال ابنه أبو هاشم : هو قول خفي يلقيه الله في قلبه كالأمر بالمعروف ، وكذلك الخاطر الذي يلقيه الشيطان في قلب العاقل ، ولا معنى للاشتغال بهذه الترهات . قال : وذهب أهل الحق إلى أن طريق العلم بوجوب النظر في العقليات والسمعيات ، السمع دون العقل ، وإنما يعلم بالعقل صحة ما يصح كونه ، ووجوب وجود ما يجب وجوده ، واستحالة كون ما يستحيل كونه ، وصحة ما يصح ورود الشرع به جوازا بكل ما ورد الشرع به من واجب ومحظور ، ومباح ومكروه ومسنون . فقد كان في العقل جواز ورود الشرع على الوجه الذي ورد به ، وكان فيه أيضا جواز ورود الشرع بتحريم ما أوجبه وإيجاب ما حرمه ، ولم يكن فيه دلالة على وجوب فعل ، ولا على تحريمه قبل ورود الشرع ، وقالوا أيضا : لو توهمنا خلق العاقل قبل ورود السمع عليه ، واستدل ذلك العاقل على معرفة الله ، ووصل إليها لم يستحق بذلك ثوابا ، ولو جحده به وكونه لم يستحق عقابا ، ولو عذبه الله أبدا في النار لكان عدلا . وإنما كان كإيلام الطفل في الدنيا ، والعقاب لا يستحقه إلا من تعلق به الأمر والنهي خطابا أو بواسطة الرسالة ثم عصاه .

                                                      هذا قول شيخنا أبي الحسن الأشعري ، وبه قال أكثر الأئمة كمالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، [ ص: 179 ] وأبي ثور ، وكل من لم يتمعزل من أصحاب الرأي ، وقال في كتاب " التحصيل " : إنه مذهب الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأصحاب الحديث ، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه " : مذهب أصحاب الحديث عامة : إنه لا تجب معرفة الله قبل السمع ، وذهبت المعتزلة إلى أنه يجب عليه ذلك قبل ورود السمع ، وقبل ورود الدعوة ، وإلا فهو مرتد كافر . ولهذا قلنا : إن من قتل ممن تبلغه الدعوة فعليه الدية ، وعند أبي حنيفة لا دية عليه ; لأنه مشرك مرتد معاند ، وقال إمام الحرمين في " تلخيص كتاب القاضي " : بحث التحسين والتقبيح يرجع إلى ما يحسن ويقبح في التكليف ، وهما راجعان إلى حكم الرب شرعا لا إلى وصف العقل ، وصارت المعتزلة إلى أن قبح القبيح يرجع [ ص: 180 ] إلى ذاته ، والأكثرون منهم صاروا إلى مثل ذلك في الحسن ، وأما أهل الحق فقالوا : لا يدرك بمجرد العقل حسن ولا قبح ; لأن الحسن ما ورد الشرع بتعظيمه ، والقبيح ما ورد بذمه ، فالحسن والقبح على التحقيق هو عين التحسين والتقبيح الشرعيين ، وقد أطبقت المعتزلة على أن حسن المعرفة والشكر ، وقبح الكفر والظلم ، مما يدرك بضرورة العقل ، وقال عبد الجليل في " شرح اللمع " : أفعال المكلفين عند المعتزلة على أربعة أضرب : أحدها : ما يعلم حسنه بالعقل ولا مجال للسمع فيه ، كشكر المنعم والعدل والإنصاف والعلم ، والثاني : ما يعلم قبحه بالعقل ، وهو ضد ما ذكرنا من الجور وكفر المنعم والجهل وهذان الضربان يعلمان بمجرد العقل .

                                                      والثالث : ما في معلوم الله أن فعله يؤدي إلى فعل ما هو حسن في العقل فهو عندهم حسن إلا أنهم لا يعلمون حسنه إلا بعد ورود الشرع كالصلاة ، والصيام ، والزكاة والحج . والرابع : ما هو في معلوم الله أنه قبيح ولا يعلم حتى يرد السمع فيكون تركه داعيا إلى القبح في العقل كالزنى واللواط ، وشرب الخمر ، وقتل النفس . فهذا لا يعلم قبحه إلا بعد ورود السمع . هذا مذهبهم في تقسيم الحسن ، والقبح ، وقال الإمام أبو نصر بن القشيري في " المرشد " : الشيء عندنا لا يحسن ولا يقبح لنفسه بل إنما ترجع الأحكام إلى قول الشارع ، وقالت المعتزلة : لا يتوقف إدراك الحسن والقبح على السمع بل يدركان [ ص: 181 ] بالعقل ، ثم منها ما يدرك بضرورة العقل كالكفر ، والضرر المحض ، ومنها ما يدرك بنظره كوجوب شكر المنعم . قال : ومن قال من أئمتنا : لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع فهو متجوز ; لأنه توهم أن الحسن زائد على الشرع وليس كذلك ، فإن الحسن عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله وكذا القبيح . وقال في كتابه في أصول الفقه : معنى قول المعتزلة : إنه يقبح كذا أو يحسن كذا عقلا أنه يدرك ذلك منهما من غير إخبار مخبر .

                                                      وقال ابن السمعاني في " القواطع " : الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعي أن التكليف مختص بالسمع دون العقل وأن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه ، ولا حظر ولا إباحة ، ولا يعرف شيء من ذلك حتى يرد السمع فيه ، وإنما العقل آلة تدرك بها الأشياء ، فيدرك به حسن وقبح بعد أن ثبت ذلك بالسمع ، وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة كثيرة ، وهم الذين امتازوا عن متكلمي المعتزلة ، وذهب إليه جماعة من الحنفية .

                                                      وذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن للعقل مدخلا في التكليف ; لأن الحسن والقبيح ضربان : ضرب علم بالعقل ، وضرب علم بالسمع . فأما المعلوم حسنه بالعقل فهو العدل ، والإنصاف ، والصدق وشكر المنعم ، وغير ذلك ، وأما المعلوم حسنه بالشرع فنحو الصلاة والصيام ، والزكاة والحج ونحوه ، وأما المعلوم قبحه بالشرع فكالزنى وشرب الخمر ونحوه . قالوا : وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل يكون وروده مؤكدا لما في العقل إيجابه وقضيته ، وزعموا أن الاستدلال على معرفة الصانع واجب بمجرد العقل قبل ورود السمع به ودعاء الشرع إليه ، وهذا مذهب المعتزلة بأسرهم ، وذهب إليه من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشي [ ص: 182 ] وأبو بكر الصيرفي ، وأبو بكر الفارسي ، والقاضي أبو حامد ، وغيرهم ، والحليمي من المتأخرين ، وذهب إليه كثير من أصحاب أبي حنيفة خصوصا العراقيين منهم ، واستدلوا بأن الله تعالى وبخ الكفار على تركهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم . فقال : { لآيات لأولي الألباب } وقال : { لأولي النهى } وقال : { أفلا تعقلون } { لقوم يعقلون } { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل } . قال : والصحيح : هو الأول وإياه نختار ونزعم أنه شعار السنة . ودليله قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولم يقل حتى نركب عقولا . وقال حكاية عن الملائكة في خطاباتهم مع أهل النار { ألم يأتكم رسل منكم } وقال تعالى : { ألم يأتكم نذير } فدل على أن الحجة إنما لزمتهم بالسمع دون العقل .

                                                      وقال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فدل على أنه لا حجة بمجرد العقل بحال ، وأما الآيات التي ذكروها ، فنحن نقول : إن العقل آلة تمييز وبه تدرك آلة الأشياء ويتوصل إلى الحجج ، وإنما الكلام في أنه بذاته هل يستقل بإيجاب شيء آخر أو تحريمه .

                                                      قال : وهذه مسألة كلامية وإنما اقتصرنا فيها على هذا القدر وذكرناها في أصول الفقه ; لأنه محتاج إليه في مسائل من الفقه . انتهى . وما نقله عن القفال الشاشي ، والصيرفي رأيته في كتابيهما في الأصول [ ص: 183 ] أما القفال ، فقال : أحكام الشرع ضربان : عقلي واجب ، وسمعي ممكن . فالأول : ما لا يجوز تغيره ولا يتوهم جواز استباحة ما يحظر ، ولا حظر ما أوجب فعله كتحريم الكفر والظلم والعدل ونحوه . وقد يرد السمع بهذا النوع فيكون مؤكدا لما وجب بالعقل . والثاني : كأعداد الصلوات وهو موقوف على تجويز العقل وقبوله إياه فيما جوزه العقل فهو مقبول ، وما رده فمردود ، ومتى ورد السمع بإيجابه صار واجبا إلى أن يلحقه النسخ والتبديل . هذا كلامه ، وأما الصيرفي فقال : في كتاب " الدلائل والأعلام " : لا يجوز أن يأتي الكتاب أو السنة أو الإجماع بما يدفعه العقل ، وإذا استحال ذلك فكل عبادة جاء بها القرآن أو السنة فعلى ضربين : أحدهما : مؤكد لما في العقل إيجابه ، أو حظره ، أو إباحته كتحريم الشرك ، وإيجاب شكر المنعم ، والثاني : ما في العقل جواز مجيئه ومجيء خلافه كالصلاة ، والزكاة . فالسمع يرقيها من حيز الجواز إلى الوجوب . قال : ولا يأتي الخبر بخلاف ذلك .

                                                      قال : والدليل على أن العقل حاكم على ما يرد به السمع أنه المميز بين الأشياء الواردة عليه . قال : وجماع نكتة الباب أن الذي يرد السمع مما يثبته العقل إنما يأتي تنبيها ، كقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } { وما خلق الله من شيء } وإنما أتى بالشيء الذي العقل عامل فيه . وقد يفكر الإنسان في خلق نفسه وخلق السموات والأرض وتدبر آثار الصنعة ، فيستدل على أن لها صانعا حكيما ، [ ص: 184 ] فبهذا يعلم أن تنبيه السمع بين في العقل انتهى .

                                                      واعلم أن هؤلاء عدوا هذا إلى غيره ، فقالوا : يجب العمل بخبر الواحد عقلا ، وبالقياس عقلا ونقل ذلك عن ابن سريج ، والقفال وغيرهما ، وذكروا في الاعتذار عن موافقتهم للمعتزلة وجهين : أحدهما : أن ذلك كان في أول أمرهم ثم رجعوا عنه . قال ابن عساكر في تأريخه " : كان القفال في أول أمره مائلا عن الاعتدال قائلا بالاعتزال ، ثم رجع إلى مذهب الأشعري . الثاني : قال القاضي أبو بكر في كتابه " التقريب " والأستاذ أبو إسحاق في تعليقه " في أصول الفقه ، وله في " شرح كتاب الترتيب " نحوا من هذا أيضا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . ولما حكينا هذه المذاهب علم أن هذه الطائفة من أصحابنا كابن سريج كانوا قد برعوا ، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام ، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم غير عالمين بما يؤدي إليه مقالاتهم من قبح القول ، ولا يخفى ما في هذين الوجهين ، والأحسن تنزيله على ما سنذكره في المنقول عن أبي حنيفة ، وقال القاضي عبد الوهاب في " الملخص " ذهبت المعتزلة إلى أن العقول بمجردها تحسن وتقبح ، وأن كثيرا من الحسن يعلم حسنه بمجرد العقل وضرورته دون أدلته ، وكذلك القبيح مثل وجوب شكر المنعم وقبح الكفر وغيره .

                                                      وقال صاحب " الكبريت الأحمر " من الحنفية : مذهب أصحابنا [ ص: 185 ] وجميع المعتزلة أن أصول الواجبات والحسن والقبيح في الأفعال كلها مدركة بالعقل سواء ورد عليها حكم الله بالتقرير أو لم يرد ، ومذهب الأشعرية أنها لا تعرف إلا بالشرع .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية