الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فلفظ «الجسم» لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق الله لا نفيا ولا إثباتا، ولا ذموا أحدا ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهبا ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما المتواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات، وذم طوائف منهم كالمشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة.

وأما لفظ «الجزء» فما علمت أنه روي عن أحد من السلف نفيا ولا إثباتا، ولا أنه أطلقه على الله أحد، من الحنبلية ونحوهم في الإثبات، كما لا أعلم أن أحدا منهم، أطلق عليه لفظ الجسم في الإثبات، وإن كان أهل الإثبات لهذه الصفات، منهم ومن غيرهم، يثبت المعاني التي يسميها منازعوهم تجسيما، وتجزئة [ ص: 273 ] وتبعيضا، وتركيبا وتأليفا، ويذكرون عنهم أنهم مجسمة بهذا الاعتبار، لإثباتهم الصفات التي هي أجسام في اصطلاح المنازع.

وأما لفظ «البعض» فقد روي فيه أثر يطلقه بعض الحنبلية، وينكره بعضهم. ومع هذا ففي الحنبلية طوائف، تنكر ثبوت هذه الصفات الخبرية في الباطن، كما ينكرها غيرهم. ثم منهم من يتأولها إما إيجابا لتأويلها، وإما تجويزا لتأويلها، كما يفعل ذلك متأولو النفاة من مستأخري الأشعرية ونحوهم. ومن ينفي مدلولها ويفوض معناه، كما يفعل ذلك طوائف من هؤلاء وغيرهم، ويسمون ذلك طريقة السلف، كما فعل ذلك المؤسس وغيره. وفيهم وفي غيرهم طوائف لا تحكم فيها بنفي ولا إثبات; بل تطلق ألفاظ النصوص الواردة بها، وتقف عن إثبات هذه المعاني ونفيها: إما شكا وإما إعراضا عن الفكر في ذلك. وقد بينا مقالات الناس منهم ومن غيرهم في غير هذا الموضع.

والمقصود بهذا الكتاب الكلام على ما ذكره من حجج [ ص: 274 ] فريقي النفاة والمثبتة. وقد رووا بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين في الصمد: الذي لا جوف له، ولفظ بعضهم: لا يخرج منه شيء كما روى ابن أبي عاصم، والطبراني عن عكرمة من وجوه أنه قال: الصمد الذي لا جوف له، ومن رواية ابن أبي شيبة، عن [ ص: 275 ] غندر، عن شعبة، عن عطاء، عن ميسرة قال: المصمت، وقال مجاهد: هو المصمت الذي لا جوف [ ص: 276 ] له، وعكرمة قال: الذي لا يخرج منه شيء، ورواه الطبراني أيضا من حديث عبد الله بن إدريس عن شعبة، وروى الطبراني قال حدثنا زكريا، حدثنا القاضي، حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، [ ص: 277 ] حدثنا أحمد الدينوري، حدثنا الحكم بن ظهير، عن معمر، عن أبي بن كعب قال: الصمد الذي لم يخرج منه شيء، ولم يخرج من شيء، الذي لم يلد ولم يولد، وذكر عن عطاء. وعن الحسن وقتادة قالا: الباقي بعد فناء [ ص: 278 ] خلقه، وفي رواية أنه قال الحسن: الدائم. مع أن الحسن قال أيضا، كما قال عكرمة ومجاهد، وسعيد بن جبير وعطية، والضحاك والسدي، وغير هؤلاء. ورووه ليس [ ص: 279 ] بأجوف، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، وقال أبو صالح: الذي ليس له أمعاء، وروى [ ص: 280 ] الطبراني عن ابن مسعود قال: الصمد الذي ليس له أحشاء، وعنه أيضا: أنه السيد الذي انتهى سؤدده، وهذا قول أبي وائل، وهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس. وقد بسطنا هذا [ ص: 281 ] في غير هذا الموضع.

وهذه الصفة تستلزم امتناع التفرق عليه، وأن يخرج منه شيء; إذ ذلك ينافي الصمدية، وهو مما احتج به في أنه جسم مصمت، وقد ذكره المؤسس في حجج منازعيه وأجاب عنه، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. وقد قال أبو القاسم لما روى عبارات الصمد قال: «وهذه الصفات كلها، صفات ربنا جل جلاله، ليس يخالف شيء منها -يعني في- هو المصمت، الذي لا جوف له، وهو الذي لا يأكل الطعام، وهو الباقي بعد فناء خلقه».

التالي السابق


الخدمات العلمية