الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              بسم الله الرحمن الرحيم

              رب يسر وأعن بعونك ، الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين الذي هو ربنا وبه نستعين وإياه نسأل أن يهدينا إلى الصراط المستقيم الذي أنعم عليهم بهدى القرآن فاتبعوه واهتدوا ومن عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبسنته فسلكوا سبيله واقتدوا متبعين غير مبتدعين ومذعنين غير طاعنين وموقنين غير شاكين ولا مرتابين وهادين بدعوته غير ضالين ولا مضلين . فسلموا عاجلا من السخط والشك والارتياب واستحقوا آجلا الرضا وجزيل الثواب ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ، وصلى الله على من ختم به الرسالة وأكمل به الحجة وأوضح به المحجة وأرسله إلى جميع عباده كافة على فترة من الرسل ودروس من العلم فأنقذ به من عباده من سبقت له الرحمة في كتابه ، ففتح أبواب السماء برحمته وجعله الداعي إلى الحق والهادي إلى الرشد والقائم بالدين ، ذاك والله محمد المصطفى ونبي الله المرتضى خير خلقه نفسا وأكرمهم طبعا وأطهرهم قلبا وأصدقهم قولا وأكملهم عقلا وأشرفهم خلقا ، النبي الأمين الزكي المرضي ، فدعا الناس إلى الإقرار بتوحيد الله ومعرفته والبراءة من الأضداد والأنداد ، وأن محمدا رسوله الصادق ، من اتبعه اهتدى فنجا ، ومن خالفه هلك وغوى ، جعلنا الله وإياكم ممن سبقت له الحسنى ، فعصم من متابعة الهوى وموافقة أهل الزيغ والردى ، ووفقنا وإياكم لاتباع الكتاب والسنة اللذين الدين فيهما مشروع ، والحكم فيهما مجموع ، وخير العاجلة والآجلة [ ص: 626 ] فيهما موضوع ، قد قطع بهما عذر كل معتل وسد بهما فاقة كل مختل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم .

              أما بعد : وفقكم الله فإني مبين لكم شرائع الإيمان التي أكمل الله بها الدين وسماكم بها المؤمنين وجعلكم إخوة عليها متعاونين وميز المؤمنين بها من المبتدعين المرجئة الضالين الذين زعموا أن الإيمان قول بلا عمل ومعرفة من غير حركة فإن الله عز وجل قد كذبهم في كتابه وسنة نبيه وإجماع العقلاء والعلماء من عباده ، فتدبروا ذلك وتفهموا ما فيه وتبينوا علله ومعانيه . فاعلموا رحمكم الله أن الإيمان إنما هو نظام اعتقادات صحيحة بأقوال صادقة وأعمال صالحة بنيات خالصة بسنن عادلة وأخلاق فاضلة جمع الله فيها لعباده مصالح دنياهم وآخرتهم ومراشد عاجلهم وآجلهم . وذلك أن الناس قد جبلوا - في نقصان عقولهم وحجرها - عن الإحاطة بحقائق الأشياء والوفاء بالإدراك لكل ما فيه الفائدة والمصلحة ، ومن استيلاء شهواتهم واحتكام أهوائهم بعدت عليهم سبل مراشدهم ، واستغمضت عليهم مخارج هداياتهم ، وذلك موضوع في جبلتهم ، فلو وكل كل منهم إلى نظره وفكره ورأيه وتدبيره واختياره فيما يؤثره من السير والمذاهب والشيم والخلائق ، لكان واجبا لا محالة أن يظهر عجزه عن كفاية نفسه وحاجتها من أبواب الرشاد وإعطائها حظها من دواعي الصلاح الذي فيه رضا خالقها ونجاتها من هلكتها . فلما علم الله تعالى ذلك منهم كفاهم برحمته ورأفته المؤونة ، وأعظم بلطفه وجوده المعونة ، فأمدهم في كتبه وعلى ألسن رسله بوظائف من الأمر والنهي بين لهم فيها ما يأتون وما يذرون ووفقهم على ما يرتكبون ويجتنبون ، ليكون كل أحد من عباده المؤمنين - قويت خبرته في النظر والاختيار أو ضعفت وكملت آلته في المعرفة [ ص: 627 ] والتمييز أو نقصت - معرضا لحظ يصل إليه من مراشده ونصيب يتوفر عليه من منافعه فيكون الجميع منهم في ضمن فضله ورحمته اللذين وسعا كل شيء كما وصف نفسه تعالى من ذلك ، فقال :

              ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا .

              ولتكون حجته مع ذلك بالإرشاد والبينة لازمة لكل مأمور ومنهي ، وفرضه مؤكدا على كل ميسر مكلف . والدين وإن كان قد انتظم في نفسه جميع ما وصفناه فليس يقف الكل على موضع هذه الفضائل فيه من أحكامه وشرائعه وموضع هذه المصالح من مفروضه وأوامره لكنهم يستبقون في ذلك ويتفاضلون على حسب مراتب المعقول وتوفيق الباري جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لهم . [ ص: 628 ]

              باب معرفة الإيمان ، وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض ، وأن الإيمان قول وعمل

              815 - حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار ، وأبو الفضل جعفر بن محمد القافلائي ، قالا : نا محمد بن إسحاق الصاغاني ، قال : نا أبو محمد عبد الله بن سليمان الفامي ، قال : نا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : نا أبو القاسم حفص بن عمر الحافظ ، قال : نا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، قالوا كلهم : نا عبد الله بن صالح أبو صالح كاتب الليث ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى :

              ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم


              قال : إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة فلما صدقوا بها زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم [ ص: 629 ] الصيام فلما صدقوا به زادهم الحج فلما صدقوا به زادهم الجهاد ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى :

              اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .

              قال ابن عباس : وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعا فلما نزلت ((براءة)) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، وكان ذلك من تمام النعمة وكمال الدين فأنزل الله تعالى

              اليوم يئس الذين كفروا من دينكم
              . . إلى قوله تعالى :

              الإسلام دينا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية