الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب المسبوق يقضي ما فاته عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا كذا في المسند من هذا الوجه فاقضوا ولم يسق مسلم لفظه وساقه أبو نعيم في المستخرج فقال فأتموا ، وعن سعيد عن أبي هريرة ، قيل له عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فذكره لم يقل الشيخان فاقضوا وإنما قالا فأتموا زاد مسلم فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة وفي رواية له صل ما أدركت واقض ما سبقك قال مسلم في التمييز لا أعلم روى هذه اللفظة عن الزهري غير ابن عيينة واقضوا ما فاتكم قال مسلم وأخطأ ابن عيينة فيها وقال يونس والزبيدي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري فأتموا وقال ابن عيينة وحده فاقضوا وقال محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة وجعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة فأتموا وابن مسعود وأبو قتادة وأنس كلهم فأتموا وقال أبو سلمة وابن سيرين وأبو رافع عن أبي هريرة فاقضوا وأبو ذر روي عنه فأتموا واقضوا قال البيهقي والذين قالوا فأتموا أكثر وأحفظ وألزم لأبي هريرة فهو أولى وحديث أبي قتادة فأتموا متفق عليه .

                                                            التالي السابق


                                                            (باب المسبوق يقضي ما فاته) عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا كذا في المسند من هذا الوجه ولم يسق مسلم لفظه وساقه أبو نعيم في المستخرج فقال فأتموا [ ص: 354 ] وعن سعيد عن أبي هريرة قيل له عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فذكره لم يقل الشيخان فاقضوا وإنما قالا فأتموا .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) فيه الأمر بإتيان الصلاة مشيا والنهي عن إتيانها سعيا وأن ذلك يكون بتؤدة ووقار وظاهره أنه لا فرق في ذلك بين الجمعة وغيرها ولا بين أن يخاف فوت تكبيرة الإحرام أو فوت ركعة أو فوت الجماعة بالكلية ولا يخاف شيئا من ذلك وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وروى ابن أبي شيبة في مصنفه هذا المعنى عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأنس بن مالك والزبير بن العوام وأبي ذر وعلي بن الحسين ومجاهد وهو قول مالك والشافعي وأحمد وروى ابن أبي شيبة الهرولة إلى الصلاة [ ص: 355 ] عن ابن عمر والأسود وسعيد بن جبير وعن إبراهيم النخعي قال رأيت عبد الرحمن بن يزيد مسارعا إلى الصلاة وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة بالبقيع فأسرع المشي .

                                                            وعن ابن مسعود أنه قال أحق ما سعينا إلى الصلاة وقال الترمذي في جامعه اختلف أهل العلم في المشي إلى المسجد فمنهم من رأى الإسراع إذا خاف فوت التكبيرة الأولى حتى ذكر عن بعضهم أنه كان يهرول إلى الصلاة ومنهم من كره الإسراع واختار أن يمشي على تؤدة ووقار وبه يقول أحمد وإسحاق وقالا العمل على حديث أبي هريرة وقال إسحاق إن خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع في المشي انتهى وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي بعد نقله ما قدمته عن مصنف ابن أبي شيبة والظاهر أن من أطلق الإسراع عنه من ابن عمر وغيره إنما هو عند خوف فوت تكبيرة الإحرام كما قيده الترمذي فقد روى ابن أبي شيبة من رواية محمد بن زيد بن خليدة قال كنت أمشي مع ابن عمر إلى الصلاة فلو مشت معه نملة لرأيت أن لا يسبقها .

                                                            وحكي عن ابن مسعود أيضا الإسراع إذا خاف فوت التكبيرة الأولى وحكي عن مالك أنه إذا خاف فوت الركعة أسرع وقال لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس قال القاضي عياض وتبعه صاحب المفهم وتأوله بعضهم على الفرق بين الراكب والماشي لأنه لا ينبهر كما ينبهر الماشي وحكي أيضا عن إسحاق أنه يسرع إذا خاف فوت الركعة وهو مخالف لما حكاه الترمذي عن إسحاق من تعليق الإسراع بخوف فوات التكبيرة الأولى ولعله يقول بالإسراع في الموضعين معا والله أعلم انتهى .

                                                            وقال أبو إسحاق المروزي من الشافعية : بالإسراع إذا خاف فوت تكبيرة الإحرام .

                                                            وقال ابن بطال بعد نقله عن ابن عمر أنه سمع الإقامة فأسرع المشي وهذا يدل على ما روي عنه أنه لا يسرع المشي إلى الصلاة أنه جعل معنى قوله عليكم بالسكينة .

                                                            على ما إذا لم يخش فوت الصلاة وكان في سعة من وقتها قال وقوله إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة يرد فعل ابن عمر ويبين أن الحديث على العموم وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة كما تلزم من كان في سعة من الوقت انتهى .

                                                            وأما الجمعة فلا نعلم أحدا قال بالإسراع لها دون غيرها من الصلوات .

                                                            وأما قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ ص: 356 ] فإن المراد بالسعي فيه مطلق المضي أو القصد وقال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي السعي العمل وبوب البخاري على هذا الحديث " المشي إلى الجمعة " وقول الله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله ومن قال السعي العمل والذهاب لقول الله تعالى وسعى لها سعيها انتهى واعلم أن النسائي بعد أن أورد هذا الحديث ترجم الإسراع إلى الصلاة من غير سعي وأورد فيه حديث أبي رافع قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث عندهم حتى ينحدر المغرب " قال أبو رافع فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يسرع إلى المغرب .

                                                            وذكر حديثا وذلك يدل على أن النسائي فهم أن بين السعي والمشي رتبة وهي الإسراع وأنها ملتحقة بالمشي في عدم النهي عنها لكن يرده قوله في بعض طرق الحديث في صحيح البخاري ولا تسرعوا إلا أن يقال السعي نوع من الإسراع فيحمل الإسراع المنهي عنه على السعي منه دون ما لم يكن سعيا بدليل حديث أبي رافع لكن كلام ابن سيده في المحكم يدل على أن السعي ليس فيه تلك المبالغة في الإسراع فإنه فسره بأنه عدو دون الشد وإن كان صاحبا الصحاح والنهاية فسراه بمطلق العدو ومن لا ينظر إلى الفرق بين السعي والإسراع ويميل إلى التعارض بينهما يقول حديث الباب أصح من حديث أبي رافع فالأخذ به متعين والله أعلم .

                                                            (الثانية) قوله إذا نودي للصلاة يحتمل أن يراد بالنداء الأذان ويحتمل أن يراد به الإقامة ويدل للاحتمال الثاني قوله في رواية أخرى في الصحيح إذا أقيمت الصلاة .

                                                            وسواء فسرناه بالأذان أو الإقامة فليس هذا القيد معتبرا في الحكم فلو قصد الصلاة قبل الإقامة كره له الأسرع أيضا بل هو أولى بالكراهة لأنه بعد الإقامة يخاف فوت بعض الصلاة . وقبلها لا يخاف ذلك فإذا نهي عن الإسراع مع خوف فوات بعض الصلاة فمع عدم الخوف أولى فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى وهو من مفهوم الموافقة .

                                                            وقد صرح بذلك النووي فقال في شرح مسلم إنما ذكر الإقامة لينبه بها على ما سواها لأنه إذا نهي عن إتيانها سعيا في حال الإقامة مع خوفه فوت بعضها فقبل الإقامة أولى قال وأكد ذلك ببيان العلة فقال صلى الله عليه وسلم فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة .

                                                            قال [ ص: 357 ] وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة وأكد ذلك تأكيدا آخر فقال فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فحصل به تنبيه وتأكيد لئلا يتوهم متوهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات انتهى .

                                                            وهو حسن وقال والدي في شرح الترمذي بعد حكايته ويحتمل أن هذا خرج مخرج الغالب لأن الغالب أنه إنما يفعل ذلك من خاف الفوت .

                                                            فأما من بادر في أول الوقت فلا يفعل ذلك لوثوقه بإدراك أول الصلاة انتهى .

                                                            وقال القاضي أبو بكر بن العربي هذه الوصية بالسكينة إنما هي لمن غفل عن المشي إلى المسجد حتى سمع الإقامة أو لمن كان له عذر وكلاهما سواء في النهي عن الإسراع انتهى .

                                                            ومقتضى هذه العبارة أنه فهم أن مفهوم الشرط هنا معتبر وأنه من مفهوم المخالفة فلا ينهى عن الإسراع من قصد الصلاة قبل الإقامة .

                                                            وهذا مردود ينفر عن القول به ببادي الرأي وآخره إلا أن يقال إنما خص النهي عن الإسراع بما بعد الإقامة لأنه يدخل في الصلاة منبهرا فيمنعه ذلك الخشوع وإقامة الأركان على وجهها وأما إذا كان قبل الإقامة فإنه إذا وصل إلى المسجد لا يدخل في الصلاة بمجرد دخوله لأن الصلاة لم تقم فيستريح ويذهب عنه ما به من البهر والتعب قبل الإقامة وفي هذا نظر لأن الصلاة وإن كانت لم تقم فقد تقام بمجرد وصوله إلى المسجد فيقع في المحذور ثم إن هذا المعنى ليس هو المعتبر في الحديث على ما سيأتي بيانه وقد ظهر بذلك أنه وقع لتردد في أن هذا من مفهوم الموافقة أو المخالفة أو لا مفهوم له والأول هو الراجح والله أعلم .



                                                            (الثالثة) قوله وعليكم السكينة ذكر أبو العباس القرطبي أنه ينصب السكينة على الأغراء كأنه قال الزموا السكينة وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : المشهور في الرواية رفع السكينة على أن قوله وعليكم السكينة جملة في موضع الحال انتهى والسكينة هي الوقار كما فسره أئمة اللغة لكن في بعض طرقه في صحيح البخاري وعليكم السكينة والوقار فقال القاضي عياض في المشارق كرر فيه الوقار للتأكيد وكذا قال أبو العباس القرطبي السكينة والوقار إسمان لمسمى واحد لأن السكينة من السكون والوقار من الاستقرار والتثاقل وهما بمعنى واحد [ ص: 358 ] وأنكر والدي رحمه الله على القرطبي قوله أن الوقار من الاستقرار لأن الوقار معتل الفاء وهذا واضح وقال في الصحاح الوقار الحلم والرزانة وقال النووي الظاهر أن بينهما فرقا وأن السكينة في الحركات واجتناب العبث ونحو ذلك والوقار في الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والإقبال على طريقه من غير التفات ونحو ذلك انتهى .

                                                            (الرابعة) المعنى في نهي قاصد الصلاة عن الإسراع وأمره بالمشي بسكينة أمور :

                                                            (أحدها) قوله في رواية لمسلم فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة فأشار بذلك إلى أنه ينبغي أن يتأدب بآداب الصلاة من ترك العجلة والخشوع وسكون الأعضاء ومن هذا أمره عليه الصلاة والسلام من خرج إلى المسجد أن لا يشبك بين أصابعه وعلل ذلك بكونه في صلاة وحكى النووي هذا المعنى عن العلماء .

                                                            (الثاني) تكثير الخطا فقد روى الطبراني بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال كنت أمشي مع زيد بن ثابت فقارب في الخطا فقال أتدري لم مشيت بك هذه المشية ؟ فقلت لا ، فقال لتكثر خطانا في المشي إلى الصلاة وقد روي هذا مرفوعا من حديث زيد بن ثابت ومن حديث أنس رضي الله عنهما .

                                                            (الثالث) ذكر المهلب أن المعنى في ذلك أن لا يبهر الإنسان نفسه فلا يتمكن من ترتيل القرآن ولا من الوقار اللازم له في الخشوع انتهى .

                                                            وذكره القاضي عياض أيضا قال والدي رحمه الله ينبني على المعنيين أي الأولين عود المصلي من المسجد إلى بيته فإن عللنا بالمعنى الأول فقد زال في رجوعه إلى بيته كونه في صلاة وإن عللنا بالمعنى الثاني فيستحب أيضا المشي ومقاربة الخطا لحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب حسنة ذاهبا وراجعا وإسناده جيد .

                                                            (قلت) وإن عللنا بالمعنى الثالث فلا يثبت هذا الحكم في الرجوع كما قلنا على المعنى الأول (الخامسة) هذا الحديث ناسخ لما روي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا سبقوا ببعض الصلاة صلوا مقدار ما فاتهم منفردين ثم دخلوا مع الإمام فصلوا معه بقية الصلاة كما رواه أبو داود في أبواب الأذان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحابنا قال كان الرجل إذا جاء يسأل فيخبر بما سبق من [ ص: 359 ] صلاته وأنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء معاذ فأشاروا إليه فقال معاذ لا أراه على حال إلا كنت عليها فقال إن معاذا قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا ورواه الطبراني في معجمه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ وفي لفظ له فقال قد سن لكم معاذ فاقتدوا به إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به .

                                                            قال المزني قوله إن معاذا قد سن لكم يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تسن هذه السنة فوافق ذلك فعل معاذ وذلك أن بالناس حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يسن وليس بهم حاجة إلى غيره انتهى ويحتمل أن يقال لا نسخ في هذه القضية ولكن الأمران جائزان أعني متابعة الإمام فيما هو فيه ثم استدراك ما بقي بعد سلامه والدخول في الصلاة منفردا ثم الاقتداء بالإمام في أثناء الصلاة وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون أحد الأمرين فلما فعل معاذ الأمر الآخر استحسنه النبي صلى الله عليه وسلم ورجحه على الأمر الأول لا أنه حتمه وصيره ناسخا بحيث إنه امتنع فعل الأمر الآخر والله أعلم .



                                                            (السادسة) استدل به على إدراك الجماعة بجزء من الصلاة وإن قل لأنه عليه الصلاة والسلام قال فما أدركتم فصلوا ولم يفصل بين القليل والكثير وبهذا قال الجمهور من أصحابنا وغيرهم قال ابن حزم وهذا زائد على الخبر الذي فيه من أدرك من الصلاة مع الإمام ركعة فقد أدرك الصلاة قال وروينا عن ابن مسعود أنه أدرك قوما جلوسا في آخر صلاتهم فقال أدركتهم إن شاء الله .

                                                            وعن شقيق بن سلمة من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة وعن الحسن قال إذا أدركهم سجودا سجد معهم وعن ابن جريج قلت لعطاء إن سمع الإقامة والأذان وهو يصلي المكتوبة أيقطع صلاته ويأتي الجماعة ؟ قال إن ظن أنه يدرك من المكتوبة شيئا فنعم وذهب الغزالي من أصحابنا إلى أن الجماعة لا تدرك بأقل من ركعة (السابعة) استدل به ابن حزم الظاهري على أنه إذا وجد الإمام جالسا في آخر الصلاة قبل أن يسلم وجب عليه أن يدخل معه سواء طمع بإدراك الصلاة من أولها في مسجد آخر أم لا فحمل الأمر في قوله [ ص: 360 ] فما أدركتم فصلوا على الوجوب على عادته ثم ذكر آثارا عن السلف بالأمر بصلاة ما أدركه يمكن حملها على الاستحباب كما حمل الجمهور الأمر في هذا الحديث على ذلك وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن رجل من أهل المدينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خفق نعلي وهو ساجد فلما فرغ من صلاته قال من هذا الذي سمعت خفق نعله قال أنا يا رسول الله قال فما صنعت قال وجدتك ساجدا فسجدت فقال هكذا فاصنعوا ولا تعتدوا بها من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالي التي أنا عليها .

                                                            (الثامنة) وقع في مسند الإمام أحمد من طريق همام عن أبي هريرة فاقضوا وهو في صحيح مسلم من هذا الوجه بلفظ فأتموا وقول والدي رحمه الله أن مسلما لم يسق لفظه فيه نظر وكأنه اشتبه حالة الكتابة بالرواية الثانية وهي رواية ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فإن هذه الرواية لم يسق مسلم لفظها وذكرها النسائي بلفظ فاقضوا وكذا هي في المسند كما ساقها الشيخ رحمه الله وهو المعروف عن ابن عيينة وقد وهم في ذلك وقد حكى الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى من هذه الأحكام كلام الأئمة في ذلك فقال قال مسلم في التمييز لا أعلم روى هذه اللفظة عن الزهري غير ابن عيينة واقضوا ما فاتكم قال مسلم وأخطأ ابن عيينة فيها وقال أبو داود قال يونس والزبيدي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعيد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري فأتموا وقال ابن عيينة وحده فاقضوا وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وجعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة فأتموا وابن مسعود وأبو قتادة وأنس كلهم فأتموا وقال أبو سلمة وابن سيرين وأبو رافع عن أبي هريرة فاقضوا وأبو ذر روى عنه فأتموا واقضوا قال البيهقي والذين قالوا فأتموا أكثر وأحفظ وألزم لأبي هريرة فهو أولى وحديث أبي قتادة فأتموا متفق عليه انتهى كلام الشيخ رحمه الله ولم يجزم أبو داود عن أبي سلمة بأن لفظه فاقضوا وإنما روى هذه اللفظة من رواية سعد بن إبراهيم عنه ورواه أولا من رواية سعيد بن المسيب وأبي سلمة مجتمعين بلفظ فأتموا وهو المشهور عن أبي سلمة قال البيهقي ورواية ابنه عنه مع متابعة الزهري إياه أصح يعني في لفظ فأتموا والرواية التي عزاها [ ص: 361 ] الشيخ رحمه الله لمسلم صل ما أدركت واقض ما سبقك هي عنده من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة ووقع في رواية سفيان بن عيينة شيء آخر وهو أنه لما رواه عن الزهري قال عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة لم يذكر معه أبا سلمة بن عبد الرحمن وكذلك قال معمر في رواية عنه ورواه عن الزهري بذكر أبي سلمة وحده شعيب بن أبي حمزة ويونس ومعمر في رواية عنهما ورواه عنه بذكرهما ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ويونس في رواية عنه ورجح الترمذي كونه من روايته عن سعيد بن المسيب ولا معنى لهذا الترجيح بل الحق أن الزهري رواه عنهما ويدل لذلك جمع من جمع بينهما وقال الدارقطني في العلل بعد أن بسط الخلاف في ذلك عن الزهري أنه محفوظ عنهما وكان الزهري ربما أفرده عن أحدهما وربما جمعه وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي دلنا جمع ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ويونس بن يزيد عن الزهري بين أبي سلمة وابن المسيب على أن الزهري سمعه منهما وأنه صح من حديثهما معا

                                                            والله أعلم .



                                                            (التاسعة) استدل بقوله وما فاتكم فأتموا على أن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخر صلاته وهو مذهب الشافعي ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر وعلي وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير وحكاه ابن المنذر عن هؤلاء خلا سعيد بن جبير وقال إنه لا يثبت عن عمر وعلي وأبي الدرداء وحكاه أيضا عن مكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق بن راهويه والمزني قال ابن المنذر وبه أقول ورواه البيهقي عن ابن عمر ومحمد بن سيرين وأبي قلابة وهو منصوص مالك في المدونة فإنه قال فيها إن ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من القراءة بأم القرآن وسورة قال ابن بطال ورواه ابن نافع عن مالك وقال سحنون في العتبية هو الذي لم نعرف خلافه وهو قول مالك أخبرني به غير واحد وحكاه ابن بطال عن أحمد بن حنبل وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء والسلف وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف وذهب آخرون إلى أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته [ ص: 362 ] وما يأتي به بعد سلام الإمام هو أول صلاته وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبي قلابة وعمرو بن دينار والشعبي وابن سيرين وعبيد بن عمير وحكاه ابن المنذر عن مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد .

                                                            فأما مالك فهو المشهور في مذهبه كما قال القاضي عبد الوهاب قال ابن بطال وهو قول أشهب وابن الماجشون واختاره ابن حبيب وقال الذي يقضي هو أولها لأنه لا يستطيع أن يخالف إمامه فتكون له أولى وللإمام ثانية أو ثالثة انتهى .

                                                            وأما الشافعي فليس هذا مذهبه وما رأيت أحدا حكاه عنه إلا أن النووي حكاه في الروضة قال إنه حكي عنه قول غريب أنه يجهر وأحمد فكذلك حكاه عنه الخطابي أيضا وهو خلاف ما حكاه عنه ابن بطال كما تقدم واستدل هؤلاء بقوله في الرواية الأخرى وما فاتكم فاقضوا .

                                                            فلما استعمل لفظ القضاء في المأتي به بعد سلام الأمام دل على أنه مؤخر عن محله وأنه أول الصلاة لكنه يقضيه وأجاب الجمهور عنه بجوابين أحدهما تضعيف هذه اللفظة كما تقدم عن غير واحد الثاني أن قوله اقضوا بمعنى أتموا والعرب تستعمل القضاء على غير معنى إعادة ما مضى قال الله تعالى فقضاهن سبع سماوات وقال تعالى فإذا قضيت الصلاة وقالوا قضى فلان حق فلان فيحمل القضاء في هذا الحديث على هذا المعنى جمعا بين الروايتين .

                                                            وفي المسألة مذهب ثالث أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال وآخرها بالنسبة إلى الأقوال وهي رواية عن مالك ويوافقه ما نص عليه الشافعي رحمه الله من أنه لو أدرك ركعتين من رباعية ثم قام للتدارك يقرأ السورة في الركعتين واختلف أصحابه في هذا فقال بعضهم هو تفريع على قوله يستحب قراءة السورة في جميع الركعات وقال بعضهم هو تفريع على القولين معا لئلا تخلو صلاته عن السورة وصححه النووي ويوافقه ما رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب أنه قال ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن وأخذ غير واحد من شيوخنا من التعليل بقولهم لئلا تخلو صلاته عن سورة أن استحباب ذلك إذا لم تمكنه قراءة السورة مع الفاتحة وراء الإمام فيما أدركه فإن فعل ذلك لكون إمامه بطيء القراءة فلا يحتاج حينئذ [ ص: 363 ] إلى قراءة السورة في آخر صلاته .

                                                            وهو واضح وقال ابن شاس في الجواهر واختلف المتأخرون في مقتضى المذهب في كونه قاضيا أو بانيا على ثلاث طرق :

                                                            (الأولى) طريقة الشيخ أبي محمد وجل المتأخرين أن المذهب كله على قول واحد وهو البناء في الأفعال والقضاء في الأقوال .

                                                            (الثانية) طريقة القرويين أن المذهب على قولين في القراءة خاصة وعلى قول واحد في الجلوس .

                                                            (الثالثة) طريقة الشيخ أبي الحسن اللخمي أن المذهب على ثلاثة أقوال أحدها أنه بان في الأفعال والأقوال والثاني أنه قاض فيهما والثالث أنه قاض في القراءة بان في الأفعال وأقرب ما فرق به بين الأقوال والأفعال في هذه الطريقة أنه رأى ما أدرك هو أول صلاته حقيقة فلذلك يبني على الجلوس لكنه يزيد فيما يأتي به سورة مع أم القرآن إذ لا يفسد الصلاة ولا ينقص كمالها زيادة السورة وينقص الكمال نقصها فيأتي بالسورة ليتلافى ما فاته من الكمال انتهى .

                                                            وذكر ابن بطال أنه لا خلاف عن مالك في قراءة المسبوق للسورة مع الفاتحة في آخر صلاته وجعل القول بأن ما أدركه مع الإمام أول صلاته وإذا أتى بما فاته لا يقرأ فيه السورة قولا آخر غير القولين الأولين وحكاه عن المزني وإسحاق وأهل الظاهر وقال فهؤلاء طردوا قولهم على أصولهم إلا أنه لا سلف لهم فيه فلا معنى له انتهى .

                                                            واقتضى كلامه أن جميع القائلين بأن ما فعله مع الإمام أول صلاته يقولون بقراءة السورة فيما يأتي به بعد سلام الإمام سوى هؤلاء المذكورين والله أعلم .

                                                            واعلم أنه يستثنى من هذا الخلاف التحرم بالصلاة والتسليم منها فليس له أن يؤخر الإحرام وإن قلنا إن ما أدركه مع الإمام آخر صلاته وليس له أن يسلم قبل إتمام صلاته وإن قلنا إن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته وقد نبه على ذلك القاضي عياض وسبقه إلى التنبيه عليه ابن بطال واستثنى مع ذلك التشهد أيضا وقال فإن قيل فلم يأمره إذا قضى الغائب بالتشهد فقد فعله قبل ذلك عندك في موضعه أي مع التفريع على أن ما يأتي به أولا آخر صلاته إما مطلقا أو في الأقوال خاصة قيل لأنه لم يفعل التسليم ومن سنة التسليم أن يكون عقب التشهد انتهى .

                                                            (العاشرة) إذا قلنا إن ما يدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته فقد اختلف أصحابنا هل يتابعه [ ص: 364 ] في الأقوال التي لا يقوم إتيان المأموم بها مع الإمام عن الإتيان بها في مواضعها بعد مفارقة الإمام كالتشهد والقنوت في الصبح إذا أدرك معه الركعة الأخيرة والصحيح عندهم أنه يأتي بها مع الإمام للاقتداء أو يأتي بها بعد ذلك على ما هي عليه من الوجوب كالتشهد عند من يوجبه أو الندب كالقنوت وقيل لا يقنت معه في الركعة الأولى وقيل إن هذه فائدة صاحب التنبيه وما يقضيه فهو آخر صلاته يعيد فيه القنوت فأفاد بذكر إعادة القنوت أنه يقنت معه ثم يعيده في الركعة الثانية وهذا المنقول عن السلف .

                                                            وقد روى البيهقي في سننه عن سعيد بن المسيب أنه قال : إن السنة إذا أدرك الرجل ركعة من صلاة المغرب مع الإمام أن يجلس مع الإمام فإذا سلم الإمام قام فركع الثانية فجلس فيها وتشهد ثم قام فركع الثالثة فتشهد فيها ثم سلم والصلاة على هذه السنة فيما يجلس فيه منهن وكان سعيد بن المسيب يقول حدثوني بثلاث ركعات يتشهد فيهن بثلاث مرات فإذا سئل عنها قال تلك صلاة المغرب يسبق الرجل منها بركعة ثم يدرك الركعتين فيتشهد فيهما قلت بل يتصور فيها أربع تشهدات بأن يأتي المسبوق والإمام في التشهد الأول فيتابعه فيه ثم يتابعه في التشهد الثاني ثم يأتي بعد سلامه بالركعتين يتشهد عقب الأولى التشهد الأول وعقب الثانية التشهد الأخير .

                                                            وهذا الحديث دال على ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال فما أدركتم فصلوا .

                                                            وهو قد أدرك مع الإمام هذه الأفعال فيأتي بها والله أعلم .



                                                            (الحادية عشرة) استدل به ابن حزم على أن من أدرك الإمام راكعا تحسب له تلك الركعة لأنه عليه الصلاة والسلام أمره بإتمام ما فاته وقد فاتته الوقفة وقراءة أم القرآن وحكاه عن أبي هريرة وزيد بن وهب وبه قال ابن خزيمة وأبو بكر الضبعي من أصحابنا لكنه كما قال النووي شاذ منكر والمعروف من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم وعليه الناس قديما وحديثا إدراك الركعة بإدراك الركوع لكن اشترط أصحابنا أن يكون ذلك الركوع محسوبا للإمام لا كركوع خامسة قام إليها الإمام ساهيا قالوا والمراد بإدراك الركوع أن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع حتى لو كان في الهوي والإمام في الارتفاع وقد بلغ هويه حد أقل الركوع قبل [ ص: 365 ] أن يرتفع الإمام عنه كان مدركا ، وإن لم يلتقيا فيه فلا هكذا قاله جميع أصحابنا ويشترط أيضا أن يطمئن قبل ارتفاع الإمام عن الحد المعتبر كذا صرح به صاحب البيان وبه أشعر كلام كثير من النقلة قال الرافعي والنووي وهو الوجه وإن كان الأكثرون لم يتعرضوا له قال ابن المنذر وقال قتادة وحميد وأصحاب الحسن إذا وضع يديه على ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة وقال الشعبي إذا انتهيت إلى الصف الأخير ولم يرفعوا رءوسهم وقد رفع الإمام رأسه فاركع فإن بعضهم أئمة لبعض وقال ابن أبي ليلى إذا كبر قبل أن يرفع الإمام رأسه تبع الإمام وكان بمنزلة القائم انتهى .

                                                            وهذا المذهب الأخير حكاه ابن حزم عن سفيان الثوري وزفر .

                                                            (الثانية عشرة) استدل بقوله وما فاتكم على جواز قول الرجل فاتتني الصلاة وبه قال الجمهور وقد كرهه محمد بن سيرين وقال إنما يقول لم أدركها قال البخاري وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصح وقال ابن بطال لا وجه لقول ابن سيرين .




                                                            الخدمات العلمية