الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب أكل الجراد قال أصحابنا والشافعي رضي الله عنهم : لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ميتا .

وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا أخذه حيا ثم قطع رأسه وشواه أكل ، وما أخذ حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل ، وإنما هو بمنزلة ما لو وجده ميتا قبل أن يصطاده فلا يؤكل ، وهو قول الزهري وربيعة . وقال مالك : " وما قتله مجوسي لم يؤكل " .

وقال الليث بن سعد : " أكره أكل الجراد ميتا ، فأما الذي أخذته حيا فلا بأس به " قال أبو بكر : قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد يوجب إباحته جميعه ، مما وجد ميتا ومما قتله آخذه .

وقد استعمل الناس جميعهم هذا الخبر في إباحة أكل الجراد فوجب استعماله على عمومه من غير شرط لقتل آخذه ؛ إذ لم يشترطه النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا [ ص: 136 ] الحسن بن المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا زكريا بن يحيى بن عمارة الأنصاري قال : حدثنا فائد أبو العوام ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الجراد قال : أكثر جنود الله ، لا آكله ولا أحرمه .

وما لم يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم فهو مباح وترك أكله لا يوجب حظره ؛ إذ جائز ترك أكل المباح وغير جائز نفي التحريم عما هو محرم ، ولم يفرق بين ما مات وبين ما قتله آخذه .

وقال عطاء عن جابر : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه . وقال عبد الله بن أبي أوفى : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره قال أبو بكر : ولم يفرق بين ميته وبين مقتوله ، حدثنا عبد الباقي قال : حدثنا موسى بن زكريا التستري قال : حدثنا أبو الخطاب قال : حدثنا أبو عتاب : حدثنا النعمان ، عن عبيدة ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة : أنها كانت تأكل الجراد وتقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله قال أبو بكر : فهذه الآثار الواردة في الجراد لم يفرق في شيء منها بين ميته وبين مقتوله .

فإن قيل : ظاهر قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة يقتضي حظر جميعها فلا يخص منها إلا ما أجمعوا عليه ، وهو ما يقتله آخذه ، وما عداه فهو محمول على ظاهر الآية في إيجاب تحريمه قيل له : تخصه الأخبار الواردة في إباحته وهي مستعملة عند الجميع في تخصيص الآية .

ولم تفرق هذه الأخبار بين شيء منها ، فلم يجز تخصيص شيء منها ولا الاعتراض عليها بالآية لاتفاق الجميع على أنها قاضية على الآية مخصصة لها .

وليس الجراد عندنا مثل السمك في حظرنا للطافي منه دون غيره ؛ لأن الأخبار الواردة في تخصيص السمك بالإباحة من جملة الميتة بإزائها أخبار أخر في حظر الطافي منه ، فاستعملناها جميعا وقضينا بالخاص منها على العام مع معاضدة الآية لأخبار الحظر . وأيضا فإنه لما وافقنا مالك ومن تابعه على إباحة المقتول منه دل ذلك على أنه لا فرق بينه وبين الميت من غير قتل ؛ وذلك لأن القتل ليس بذكاة في حقه ؛ لأن الذكاة في الأصل على وجهين وهي فيما له دم سائل :

أحدهما قطع الحلقوم والأوداج في حال إمكانه ، والآخر : إسالة دمه عند تعذر الذبح ، ألا ترى أن الصيد لا يكون مذكى بإصابته إلا أن يجرحه ويسفح دمه ؟ فلما لم يكن للجراد دم سائل كان قتله وموته حتف أنفه سواء ، كما كان قتل ما له دم سائل من غير سفح دمه وموته حتف أنفه سواء في كونه غير مذكى . فكذلك واجب أن يستوي حكم قتل الجراد وموته حتف أنفه ؛ إذ ليس هو مما يسفح دمه .

فإن قيل : قد فرقت بين السمك [ ص: 137 ] الطافي وما قتله آخذه أو مات بسبب حادث ، فما أنكرت من فرقنا بين ما مات من الجراد وما قتل منه ؟ قيل له : الجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما أن هذا هو القياس في السمك لما لم يحتج في صحة ذكاته إلى سفح الدم ، إلا أنا تركنا القياس للآثار التي ذكرنا ، ومن أصلنا تخصيص القياس بالآثار .

وليس معك الأثر في تخصيص بعض الجراد بالإباحة دون بعض ، فوجب استعمال أخبار الإباحة في الكل والوجه الآخر : أن السمك له دم سائل فكان له ذكاة من جهة القتل ولم يحتج إلى سفح دمه في شرط الذكاة ؛ لأن دمه طاهر وهو يؤكل بدمه ، فلذلك شرط فيه موته بسبب حادث يقوم له مقام الذكاة في سائر ما له دم سائل ، وهذا المعنى غير موجود في الجراد ، فلذلك اختلفا ، وقد روي عن ابن عمر أنه قال : " الجراد كله ذكي " وعن عمر وصهيب والمقداد إباحة أكل الجراد ، ولم يفرقوا بين شيء منه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية