الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ اختلاف العلماء في حكم دلالات العقول ] وقال أبو زيد الدبوسي : اختلف العلماء في حكم دلالات العقول على المشروعات الدينية لولا الشريعة على أربعة أقوال : أحدها : أن الاشتغال به لغو ; لأن الله لم يدعنا والعقول بمجردها . والثاني : أنها حسنة بالعقل لولا الشريعة ، والثالث : التفصيل بين العبادات والمعاملات . فالعبادات كانت تجب لولا الشرع لا زاجر عنها إلا عند عدم الإمكان ، كالإيمان بالله ، وإنما سقط لا لضرورة بالشرع تيسيرا ، وإليه ذهب بعض الصوفية ، وأما العقوبات المعجلة فما وجبت إلا شرعا . الرابع : قال : وهو المختار عندنا أن على العبد بمجرد العقل الإيمان بالله ، واعتقاد وجوب الطاعة على نفسه من أمر ونهي ، لكنه تقف نفسه للبدار إلى ما يأمر به وينهاه من غير أن يقدم على شيء بالاستباحة تعظيما لله ، لا لقبح هذه المشروعات قبل الأمر بل يمنع العقل معرفة حسنها .

                                                      قال : وهو مذهب علمائنا ، ولهذا كان بعث الرسل على الله حقا واجبا ليمكنهم الإقدام على العبادة ، والتوقف للطاعة ضرب عناد فإنها تمثيل العقل فكان يلزم ذلك بمجرد العقل مع اعتقاد أنه مخلوق للعبادة المطلقة ، وأنها مجملة وأن الله يبين ذلك . والحاصل أن الحنفية يقولون : يجب اعتقاد كونه مأمورا ، وأما الإقدام على الفعل والترك فلا يأتي به إلا بعد الشرع ، ويظن كثير من الناس أن [ ص: 186 ] مذهب أبي حنيفة كمذهب المعتزلة وينصب الخلاف بينهم وبين الأشعرية ، لقول أبي حنيفة : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه . وقوله : لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم . لكن هذا الكلام قد فسره أبو عبد الله أحمد بن محمد الصابوني وهو العمدة عندهم .

                                                      قال : ليس تفسير وجوب الإيمان بالعقل أن يستحق العقاب بالعقل والثواب بالعقل ، إذ هما لا يعرفان إلا بالسمع لكن تفسيره عندنا نوع ترجيح . ا هـ . والأحسن في معناه الطريقة الأولى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تنزيل ثالث في إيضاح آخر ، وقال بعض محققي الحنفية : عندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى ، ولا يقال : إن هذا مذهب الأشاعرة ; لأنا نقول : الفرق هو أن الحسن والقبح عند الأشاعرة لا يعرفان إلا بعد الشرع ، وعندنا قد يعرفهما العقل بخلق الله تعالى علما ضروريا بهما إما بلا كسب ، كحسن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبح الكذب الضار ، وإما مع كسب ، كالحسن والقبح المستفاد من الأدلة ، وترتيب المقدمات ، وقد لا يعرفان إلا بالكتاب والنبي كأكثر أحكام الشرع [ ص: 187 ] وحاصله : أن حسن المأمور به عندنا من مدلولات الأمر ، وعند الأشعري من موجباته .

                                                      واعلم أن كلام ابن برهان في موضع آخر يقتضي أن القائلين بالحسن والقبح قالوا : إن العقل موجب وحاكم ، وتبعه الآمدي وغيره . ويصير مطلع الخلاف يرجع إلى أن الشرع مثبت أو مقرر ؟ وأما الإمام فخر الدين وأتباعه فسلكوا طريقا لخصوا فيها محل النزاع ، فقالوا : الحسن والقبح يطلقان بمعان ثلاثة : أحدها : ما يلائم الطبع وينافره ، كالحلاوة ، والمرارة ، والفرح والحزن ، وليس هذا محل النزاع لاختلافه باختلاف الأغراض . الثاني : كون الشيء صفة كمال أو نقص كالعلم والجهل ، وهما بهذين المعنيين عقليان . أي : يعرفان بالعقل بلا خلاف . الثالث : كون الفعل موجبا للثواب ، والعقاب والمدح والذم ، وهذا موضع النزاع ، فعندنا لا يعلم إلا بالشرع وعندهم بخلافه ، فالنزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا .

                                                      وقضية هذا أن الفعل لا يوجبه لتصريحه بالتعلق ، ونازعه القرافي ، فقال : النزاع في كون الفعل متعلقا للذم أو العقاب يشعر بأن ترتب الذم والعقاب على الفعل ينازع فيه ، وليس كذلك عندنا ولا عندهم ، إذ يجوز [ ص: 188 ] أن يحرم الله تعالى ويوجب ولا يعجل ذما بل يحصل الوعيد من غير ذم ، ويجوز أن يكلف ولا يوجد عقابا بل يعجله عقب الذنب ، وإنما النزاع في كون الفعل متعلقا بالمؤاخذة الشرعية كيف كانت ذما أو غيره عاجلة أو آجلة هل يستقل العقل بذلك أم لا ؟ قلت : وجعل المقترح في شرح الإرشاد " من صور محل النزاع ما يتعارف قبل الشرع من الميل إلى الفعل والنفرة عنه . قال : فالمعتزلة يدعون أن ذلك استحثاث العقل على الفعل ، ونحن نرى أنه مما جبل عليه الحيوان من شهوة ما ينفعه وكراهة ما يضره . ا هـ .

                                                      وهذا صريح في نقل الخلاف في الحالة الثانية التي جعلها الإمام محل وفاق . ثم قال : فرعت المعتزلة أن العقل مما يستحث على الفعل ; لأنه على صفة في نفسه لأجلها يحث على فعله ، ثم اضطربوا في هذه الصفة ، فقال قدماؤهم : صفة نفسية وقال متأخروهم : تابعة للحدوث . ثم قالوا : إنما نهى الشرع عن الفعل ; لأنه على صفة في نفسه لأجلها يقبح ، أو ; لأنه يؤدى فيقبح في نفسه . قال : وأصل هذه المسألة أخذتها المعتزلة من الفلاسفة فإنهم قالوا : العلم محمود لذاته ، والجهل مذموم لذاته ، وسائر الأفعال ليست عندهم محمودة لذاتها ، ولا مذمومة لذاتها بل لعروض عرض بالنسبة إليها ، فأخذ المعتزلة بهذا المذهب في العلم والجهل ، وعدوه إلى سائر الأفعال ، وعبر بعض الناس عن مذهب القوم بأن قال : عندهم أنه يدرك الحسن والقبح عقلا من غير أن يتوقف " على إخبار على مخبر " وليس في هذا [ ص: 189 ] إفصاح عن أنهم يردونه إلى صفة نفسية أو صفة تابعة للحدوث أو غير ذلك . ويقال لمن قال : إنها صفة نفسية : صفة النفس ما يتبع النفس في الوجود والعدم ، ويلزم منه إثبات الحسن والقبيح في القديم . ثم يلزم منه استحقاق الذم على المعدوم وذلك محال . ثم قسموا الأفعال إلى قسمين ، وقالوا : منها ما يدرك بالعقل ، ومنها ما لا يدرك بالعقل فيه حسنا ولا قبحا ، وإنما يعرف بالشرع ، وذلك لخفاء وصفه عن العقول ، وليس هو ثابتا بالخطاب وإنما الشرع كاشف عن حقيقته لما قصر العقل عنه .

                                                      قال في " تعليقه على البرهان " : ولكل مذهب سيئة وحسنة ، فمذهب الأشعرية أنهم نفوا الحسن في حق الله تعالى وفي حقنا ، فحسنتهم كونهم نفوه في حق الله تعالى وسيئتهم كونهم نفوه في حقنا ، ومذهب المعتزلة إثبات الحسن في حق الله وفي حقوقنا ، وسيئتهم كونهم أثبتوه في حق الباري ، وحسنتهم كونهم أثبتوه في حقنا . فاختار إمام الحرمين مذهبا بين مذهبين وهو الجامع لمحاسن المذاهب ، فأثبته في حقنا ونفاه في حق الباري . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية