الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين

"ينظرون" معناه ينتظرون، و"نظر" متى كانت من رؤية العين فإنما تعديها العرب بإلى، ومتى لم تتعد بإلى) فهو بمعنى انتظر، كما قال امرؤ القيس:


فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب



ومنه قوله تعالى حكاية: انظرونا نقتبس من نوركم ، وقد جاء شاذا نظرت بمعنى الرؤية متعديا بغير إلى كقول الشاعر:

[ ص: 351 ] باهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما تنظر الأراك الظباء

وقرأ الجمهور: "تأتيهم" بالتاء من فوق، وقرأ حمزة والكسائي : "يأتيهم" بالياء، وهي قراءة يحيى بن وثاب، وطلحة، والأعمش ، ومعنى الكلام أن تأتيهم الملائكة لتقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم، وقوله: أو يأتي أمر ربك وعيد يتضمن قيام الساعة أو عذاب الدنيا. ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل أسلافهم من الأمم، أي: فعوقبوا، ولم يكن ذلك ظلما لأنه لم يوضع ذلك العقاب في غير موضعه، ولكن ظلموا أنفسهم بأن وضعوا كفرهم في جهة الله تعالى، وميلهم إلى الأصنام والأوثان، فهذا وضع الشيء في غير موضعه. وظلموا أنفسهم، أي: آذوها بنفس فعلهم وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها.

وقوله تعالى: فأصابهم سيئات ما عملوا ، أي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة. "وحاق" معناه نزل وأحاط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر من الكلام، تقديره: جزاء ما كانوا به يستهزؤن.

وقوله تعالى: وقال الذين أشركوا الآية جدل من الكفار، وذلك أن أكثر الكفار يعتقدون وجود الله تعالى، وأنه خالقهم ورازقهم، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم قالوا: يا محمد، نحن من الله بمرأى في عبادتنا الأوثان، واتخاذها لتنفع وتقرب زلفى، ولو كره الله فعلنا لغيره منذ مدة، إما بإهلاكنا وإما بهدايتنا. وكان من الكفار فريق لا يعتقدون بوجود الله، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم أخذوا الحجة على النبي عليه الصلاة والسلام من قوله، أي: إن الرب الذي تثبته يا محمد وهو على ما تصفه يعلم ويقدر، لا شك أنه يعلم حالنا، ولو كرهها لغيرها. والرد على هذين الفريقين هو في أن الله تعالى ينهى عن الكفر وقد أراده بقوم، وإنما نصب الأدلة وبعث الرسل ويسر كلا لما حتم عليه، وهذا الجدال -بين أي الصنفين فرضته- [ ص: 352 ] ليس فيه استهزاء، لكن أبا إسحاق الزجاج قد قال: إن هذا الكلام على جهة الهزء، فذهب أبو إسحاق -والله أعلم إلى أن الطائفة التي لا تقول بالإثم، ثم أقامت الحجة من مذهب خصمها كأنها مستهزئة في ذلك، وهذا جدل محض، والرد عليه كما ذكرناه، وقوله: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين يشير إلى ما ذكرناه.

وقوله: "ولا حرمنا" يريدون البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما حرموه، وأخبر الله تبارك وتعالى أن هذه النزعة قد سبقهم الأولون من الكفار إليها، كأنه قال: والأمر ليس على ما ظنوه من أن الله تعالى إذا أراد الكفر لا يأمر بتركه، بل قد نصب الله لعباده الأدلة، وأرسل الرسل منذرين، وليس عليهم إلا البلاغ.

التالي السابق


الخدمات العلمية