الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 88 ] البيان والمبين قال الغزالي : جرت عادة الأصوليين بعقد كتاب له . وليس النظر فيه مما يجب أن يسمى كتابا ، فالخطب فيه يسير ، والأمر فيه قريب ، وأولى المواضع به أن يذكر عقب المجمل ، فإنه المفتقر إلى البيان . ا هـ . وأمره ليس بالسهل ، فإنه من جملة أساليب الخطاب ، بل هو من أهمها ، ولهذا صدر به الشافعي كتاب " الرسالة " .

                                                      والبيان لغة : اسم مصدر بين إذا أظهر ، يقال : بين بيانا وتبيانا ، ك كلم يكلم كلاما ، وتكليما ، قال ابن فورك في كتابه : مشتق من البين ، وهو الفراق ، شبه البيان به ، لأنه يوضح الشيء ، ويزيل إشكاله . وقال أبو بكر الرازي : سمي بيانا لانفصاله مما يلتبس به من المعاني ، ويشكل من أجله . وأما في الاصطلاح : فيطلق على الدال على المراد بخطاب ثم يستقل بإفادته ، ويطلق ويراد به الدليل على المراد ، ويطلق على فعل المبين . ولأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة اختلفوا في تفسيره بالنظر إليها ، فلاحظ الصيرفي فعل المبين ، فقال : البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز [ ص: 89 ] التجلي . وقال القاضي في ( مختصر التقريب ) : وهذا ما ارتضاه من خاض في الأصول من أصحاب الشافعي . وقال القاضي أبو الطيب الطبري : إنه الصحيح عندنا ، لأن كل ما كان إيضاحا لمعنى وإظهارا له ، فهو بيان له . واعترضه ابن السمعاني بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي . وللصيرفي منع ذلك . ونقض أيضا بالنصوص الواردة في الحكم المبتدأ من غير سبق إشكال ، فإنه ربما ورد من الله تعالى بيان لم يخطر ببال أحد . ويخرج منه بيان المعدوم ، فإنه لا يقال عليه شيء ، وبيان المعلم لمن لا يفهم عنه لقصوره . ولعله يمنع تسمية ما كان ظاهرا ابتداء بيانا . وقال الغزالي : هذا الحد لفرع من البيان ، وهو بيان المجمل خاصة ، والبيان يكون فيه وفي غيره . ا هـ . ولاحظ القاضي ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والآمدي ، والإمام الرازي ، وأكثر المعتزلة كأبي هاشم ، وأبي الحسين : أنه الدليل فحدوه بأنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب . ا هـ . ولاحظ أبو عبد الله البصري أنه نفس العلم أو الظن الحاصل من الدليل ، فحده بأنه تبيين الشيء ، فهو والبيان عنده واحد . كذا قاله الهندي تبعا للغزالي . وحكى أبو الحسين عنه أنه العلم الحادث ، لأن البيان هو ما به يتبين الشيء ، والذي به تبين هو العلم الحادث . قال : ولهذا لا يوصف الله سبحانه بأنه مبين ، لما كان علمه لذاته لا بعلم حادث . [ ص: 90 ] وقال العبدري بعد حكاية المذاهب : الصواب أن البيان هو مجموع هذه الأمور الثلاثة ، فعلى هذا يكون حده : أنه انتقال ما في نفس المعلم إلى نفس المتعلم بواسطة الدليل . لكن الاصطلاح إنما وقع على ما رسم به القاضي ، وذلك أن الدليل هو أقوى الأمور الثلاثة ، وأكثرها حظا من إفادة البيان والمبين . وقال الماوردي : الذي عليه جمهور الفقهاء أن البيان إظهار المراد بالكلام الذي لا يفهم منه المراد إلا به . قال ابن السمعاني : وهذا الحد أحسن الحدود ، ويرد عليه ما أورده هو على الصيرفي ، أعني الوارد ابتداء من غير سبق إجمال . وقال شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتابه : اختلف أصحابنا في معنى البيان ، فقال أكثرهم : هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب منفصلا عما يستر به . وقال بعضهم : هو ظهور المراد للمخاطب ، والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب . قال : وهو اختيار أصحاب الشافعي ، لأن الرجل يقول : " بان هذا المعنى " أي ظهر . والأصح الأول أي الإظهار . ا هـ . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : قال أصحابنا في البيان : إنه الإفهام بأي لفظ كان . وقال أبو بكر الدقاق : إنه العلم الذي يتبين به المعلوم ، حكاه القاضي أبو الطيب . وذكر الشافعي في " الرسالة " : أن البيان اسم جامع لأمور متفقة الأصول متشعبة الفروع ، وأقل ما فيه أنه بيان لمن نزل القرآن بلسانه ، فاعترض عليه أبو بكر بن داود ، وقال : البيان أبين من التفسير الذي فسره به . [ ص: 91 ] قال القاضي أبو الطيب : وهذا لا يصح ، لأن الشافعي لم يقصد حد البيان وتفسير معناه ، وإنما قصد به أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان ، وهي متفقة في أن اسم البيان يقع عليها ، ومختلفة في مراتبها ، فبعضها أجلى وأبين من بعض ، لأن منه ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر ، ومنه ما يحتاج إلى دليل ، ولهذا قال عليه السلام : { إن من البيان لسحرا } فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض ، وهذا كالخطاب بالنص والعموم والظاهر ، ودليل الخطاب ، ونحوه ، فجميع ذلك بيان . وإن اختلفت مراتبها فيه . ا هـ . وكذا قال الصيرفي ، وابن فورك : مراد الشافعي أن اسم البيان يقع على الجنس ، ويقع تحته أنواع مختلفة المراتب في الجلاء والخفاء . وقال أبو بكر القفال : أراد أنه وإن حصل من وجوه ، فكل ذلك يجتمع في أنه يعود إلى الكتاب ويستفاد منه . حكاه سليم الرازي في تقريبه " . وقال أبو الحسين في " المعتمد " : هذا ليس بحد ، وإنما هو وصف للبيان بأنه يجمعه أمر جامع ، وهو أنه سنة أهل اللغة ، أنه يتشعب إلى أقسام كثيرة ، فإن حد بأنه بيان لمن نزل القرآن بلغته كان قد حد البيان بأنه بيان ، وذلك حد الشيء بنفسه ، وإن كان قد حد البيان العام ، فإنه يخرج منه الأدلة العقلية ، وإن حد البيان الخاص الذي يتعارفه الفقهاء ، فإنه يدخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد كالعموم ، والخصوص وغيرهما . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية