الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 125 ] هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون

                                                                                                                                                                                                قرأ زيد بن ثابت : "ينشركم"، ومثله قوله: فانتشروا في الأرض [الجمعة: 10]، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [الروم: 20].

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟

                                                                                                                                                                                                قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد "حتى" بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه [ ص: 126 ] الحادثة، وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظن للهلاك، والدعاء بالإنجاء .

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: ما جواب "إذا" ؟ قلت: جاءتها، فإن قلت: فدعوا ؟ قلت: بدل من ظنوا; لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به، فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح، فإن قلت: ما وجه قراءة أم الدرداء: "في الفلكي" بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل: هما زائدتان كما في الخارجي والأحمري. ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه . والضمير في "جرين": للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخي فعل، وفي قراءة أم الدرداء: "للفلك"، أيضا; لأن الفلكي يدل عليه، جاءتها : جاءت الريح الطيبة، أي: تلقتها، وقيل: الضمير: للفلك، من كل مكان : من جميع أمكنة الموج، أحيط بهم : أي: أهلكوا جعل إحاطة العدو بالحي مثلا في الهلاك، مخلصين له الدين : من غير إشراك به; لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه، لئن أنجيتنا : على إرادة القول، أو لأن: "دعوا": من جملة القول، يبغون في الأرض : يفسدون فيها، ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك: بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد .

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: فما معنى قوله: بغير الحق ، والبغي لا يكون بحق؟

                                                                                                                                                                                                قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببني قريظة، قرئ: "متاع [ ص: 127 ] الحياة الدنيا"، بالنصب.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: ما الفرق بين القراءتين ؟

                                                                                                                                                                                                قلت: إذا رفعت كان المتاع خبرا للمبتدإ الذي هو: "بغيكم"، و على أنفسكم : صلته، كقوله: فبغى عليهم [القصص: 76]، ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعني: بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لإبقاء لها، وإذا نصبت: فـ على أنفسكم خبر غير صلة، معناه: إنما بغيكم وبال على أنفسكم، و متاع الحياة الدنيا : في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغيا، ولا تنكث ولا تعن ناكثا"، وكان يتلوها، وعنه عليه الصلاة والسلام: "أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة". وروي: "ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا: البغي، [ ص: 128 ] وعقوق الوالدين"، وعن ابن عباس -رضي الله عنه-: "لو بغى جبل على جبل لدك الباغي" . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه [من البسيط]:

                                                                                                                                                                                                [ ص: 129 ]

                                                                                                                                                                                                يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فاربع فخير فعال المرء أعدله

                                                                                                                                                                                                    فلو بغى جبل يوما على جبل
                                                                                                                                                                                                ... لاندك منه أعاليه وأسفله



                                                                                                                                                                                                وعن محمد بن كعب : "ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمكر". قال الله تعالى: إنما بغيكم على أنفسكم .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية