الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 223 ] 828 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المراد بالكلالة ، من هو ؟

حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل . وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد أبي حيان التيمي ، عن الشعبي ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : لوددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى يبين للناس أبوابا من الربا والكلالة والجد .

وحدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، قال : سمعت ابن إدريس ، قال : سمعت أبا حيان ، عن الشعبي ، عن ابن عمر ، قال : سمعت عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ثلاث أيها الناس [ ص: 224 ] وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا .

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مرة بن شراحيل ، عن عمر ، قال : ثلاثة لأن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهن لنا قبل أن يموت ، أحب إلي مما على الأرض : الخلافة ، والربا ، والكلالة .

فقلت : الكلالة لا شك فيه هو ما دون الولد والأب ، فقال : الأب يشكون فيه .

وحدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا وهب وأبو داود ، قالا : حدثنا شعبة ، ثم ذكر بإسناده مثله .

وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : [ ص: 225 ] حدثنا عمرو بن مرة ، عن مرة ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : ثلاث لأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهن لنا ، أحب إلي من الدنيا وما فيها : الخلافة ، والكلالة ، والربا .

ففي حديث شعبة عن عمرو : أن الكلالة ما دون الولد ، وأنهم كانوا يشكون في الأب ، أهو في ذلك كالولد أم لا . ؟

5224 - وحدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال : أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني ، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري ، قال : قام عمر بن الخطاب خطيبا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : إني والله ما أدع شيئا هو أهم إلي من أمر الكلالة ، وقد سألت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عنها ، فما أغلظ لي في شيء قط ما أغلظ لي فيها حتى طعن بأصبعه في صدري أو في جنبي ، وقال : يا عمر أما يكفيك آية أنزلت في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحد يقرأ القرآن أو لا يقرأ القرآن .

[ ص: 226 ]

5225 - وحدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال : حدثنا سهل بن بكار ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن جابر ، عن الحسن ، عن مسروق ، عن أبيه ، قال : سألت عمر بن الخطاب عن قرابة لي ورث كلالة ، فقال : الكلالة ، الكلالة ، الكلالة ، ثلاثا ، ثم أخذ بلحيته ، فقال : والله لأن أعلمها ، أحب إلي مما على الأرض من شيء ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألم تكن تسمع إلى الآية التي أنزلت في الصيف ؟ " مرتين .

5226 - وحدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا يوسف بن عدي [ ص: 227 ] ، قال : حدثنا معمر بن سليمان ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف .

فكان جميع ما في هذه الآثار ، ترك المسؤول عنها الجواب عنها ، ما هي ؟ تورعا عن القول في كتاب الله - عز وجل - بما لم يوقف على حقيقته من عند الله ، حتى مات عمر على ذلك .

كما حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، قال : سمعت ابن عباس ، يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر ، فسمعته يقول : القول ما قلت . قلت : وما قلت ؟ قال : الكلالة : من لا ولد له .

[ ص: 228 ] وكان الذي في ذلك من عمر - يعني الولد - أن يكون كلالة ، والوقوف عن الوالد ، هل هو كلالة ، أم لا ؟ وقد روي عنه - رضي الله عنه - في ذلك خلاف ما في هذا الحديث .

كما حدثنا عيسى بن إبراهيم أيضا ، قال : حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان عمر كتب كتابا في الكلالة ، فلما حضرته الوفاة دعا بالكتاب ، فمحاه ، وقال : ترون فيه رأيكم .

وكما حدثنا عبيد بن رجال ، قال : حدثنا عبد الغفار بن داود الحراني ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن داود بن عبد الله الأودي ، عن [ ص: 229 ] حميد بن عبد الرحمن الحميري ، قال : حدثنا ابن عباس بالبصرة ، قال : قال عمر لما طعن : أما أنا فلم أقض في الكلالة قضاء .

ثم نظرنا فيما روي في الكلالة سوى ذلك . ؟

فوجدنا فهدا قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا حبان بن علي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، قال : أمر المغيرة بن شعبة صعصعة بن صوحان أن يخطب الناس ، فتكلم ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله - عز وجل - بعث محمدا حين درست الآثار وتهدمت المنار فبلغ ما أرسل به ، ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر ، فأقام المصحف ، وورث الكلالة ، وكان قويا في أمر الله - عز وجل - ثم قبض أبو بكر ، واستخلف عمر ، فمصر الأمصار ، وفرض العطاء ، وكان قويا في أمر الله - عز وجل - ثم قبض عمر ، واجتمع الناس على عثمان ، فكانت خلافته قدرا ، وقتله قدرا ، فقال المغيرة : انظروا ما يقول حين انتهى إلى عثمان . فقال : أمرتني أن أخطب ، فخطبت ، ثم أمرتني أن أجلس ، فجلست .

[ ص: 230 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أن أبا بكر - رضي الله عنه - قد كان ورث الكلالة ، ولم نجد فيه ذكر ما كانت الكلالة عنده ، فنظرنا في ذلك .

فوجدنا يونس قد حدثنا ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمر ، قالا : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .

ففي هذا الحديث مع انقطاعه : أن أبا بكر وعمر ، قالا : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .

ثم نظرنا فيما روي في ذلك من غير هذه الوجوه التي ذكرناها . ؟

[ ص: 231 ]

5227 - فوجدنا فهدا قد حدثنا ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب الحناط ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : حدثني ثلاثة من بني سعد : أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مرض بمكة ، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن لي مالا كثيرا ، وليس لي وارث ، إلا كلالة ، أفأوصي بمالي كله ؟ قال : " لا " قال : أفأوصي بنصفه ؟ قال : " لا " قال : أفأوصي بثلثه ؟ قال : الثلث ، والثلث كثير .

5228 - ووجدنا يوسف بن يزيد قد حدثنا ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، قال : حدثني حميد بن عبد الرحمن الحميري ، قال : [ ص: 232 ] حدثني ثلاثة نفر من ولد سعد هذا أحدهم - يعني عامر بن سعد - : أن سعد بن أبي وقاص مرض بمكة ، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده ، فقال له سعد : يا رسول الله ، إني لأدع مالا ، وليس لي وارث إلا الكلالة ، أفأوصي بمالي كله ؟ قال : " لا " . قال : فبنصفه ؟ قال : " لا " . قال : فبثلثه ؟ قال : الثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تدع أهلك بعيش - أو قال : بخير - خير لك من أن تدعهم يتكففون الناس .

فكان في هذا الحديث قول سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس لي وارث إلا الكلالة ، وكانت له ابنة قد ذكرها الزهري ، عن عامر بن سعد فيما رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب ، فعقلنا بتصحيح أحاديثه : أن معنى قوله : " وليس لي وارث إلا الكلالة " أي : ليس لي وارث مع ابنتي إلا الكلالة ; لأن الابنة ليست بكلالة عند أهل العلم جميعا .

ثم نظرنا هل روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكلالة غير ما ذكرنا ، أم لا . ؟

5229 - فوجدنا أحمد بن الحسن الكوفي قد حدثنا ، قال : سمعت سفيان ، يقول : سمع ابن المنكدر جابر بن عبد الله ، يقول : مرضت فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني ، فوجدني قد أغمي علي ، ومعه أبو بكر يمشيان ، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصب وضوءه علي ، فأفقت ، فقلت : يا رسول الله ، كيف أقضي في مالي ، كيف أصنع في مالي ؟ فلم يجبني ، حتى نزلت آية الميراث . قال : فكان له سبع أخوات ، ولم يكن له والد ولا ولد . [ ص: 233 ] فقالوا : أيها هذه الآية ؟ فقال يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخر الآية .

وقال محمد بن المنكدر : قال جابر : في نزلت هذه الآية .

[ ص: 234 ]

5230 - ووجدنا يزيد بن سنان قد حدثنا ، قال : حدثنا وهب بن جرير وبشر بن عمر ، قالا : حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ، فصب الوضوء علي ، فعقلت ، فقلت : كيف الميراث ، فإنما ترثني كلالة ؟ فنزلت آية الفرائض .

ففي هذا الحديث : أن جابرا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما ترثني كلالة ، [ ص: 235 ] ، ولم ينكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله ، فدل ذلك أن الكلالة هي الوارث لا الموروث .

5231 - ووجدنا يزيد قد حدثنا ، قال : حدثنا وهب ، قال : حدثنا هشام ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : اشتكيت وعندي سبع أخوات لي ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنفخ في وجهي ماء ، فأفقت ، فقلت : يا رسول الله ، أوصي لأخواتي بالثلثين ؟ قال : " أحسن " . قلت : الشطر ؟ قال : " أحسن " . ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركني ، ثم رجع فقال : يا جابر ، إن الله قد أنزل ، فبين الذي لأخواتك ، فجعل لهن الثلثين فكان جابر يقول : في نزلت هؤلاء الآيات يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة .

[ ص: 236 ] ففي هذا الحديث أن الأخوات اللاتي ذكر جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كلالة مما لم ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الولد ، وقد تكون بحجب الأخوات إذا كان ذكرا ، ولا يحجبهن إذا كان أنثى ، ليس بكلالة ، كان الوالد الذي لا يحجبهن في الأحوال كلها ، أحرى أن لا يكون كلالة .

وفيما قد ذكرنا ما قد دل أن الكلالة من يرث لا من يورث ، وفي ذلك ما قد دل على صحة قراءة من قرأ : وإن كان رجل يورث كلالة - والله أعلم - . وقد حدثنا ولاد النحوي ، قال : حدثنا أبو جعفر المصادري ، قال : حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى ، قال : الكلالة : كل من أورث غير أب أو ابن أو أخ ، فهو عند العرب كلالة : " يورث كلالة " : وهي مصدر من تكلله النسب .

الكلالة : ما يكلل به النسب من الأعمام ، وبني العم ، والعصبة .

قال : وقال بعضهم : الإخوة من الكلالة .

قال أبو جعفر : والقول عندنا في ذلك ما رويناه في حديثي جابر وسعد : أن الكلالة هم الوارثون ، لا الموروث ، وقد روي أن آية الكلالة هي آخر آية أنزلت .

[ ص: 237 ]

5232 - كما قد حدثنا فهد ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : آخر آية أنزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وآخر سورة نزلت براءة .

وقد روي عن ابن عباس في الكلالة أيضا .

كما قد حدثنا عيسى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، قال : أخبرنا الحسن بن محمد ، قال : سألت ابن عباس عن الكلالة ، قال : هو من لا ولد له ولا والد . [ ص: 238 ] قلت : فإن الله يقول : إن امرؤ هلك ليس له ولد فغضب علي وانتهرني .

وقد يحتمل أن يكون الذكر للولد في هذه الآية ، وترك الذكر للوالد ; لأن المخاطبين في ذلك يعلمون أن الوالد في هذا المعنى أوكد من الولد ، فيكون الذكر للولد يغني عن ذكر الوالد ، كما قال - جل وعز - : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وسكت عما سوى هؤلاء مما تحرمه الرضاعة من العمات والخالات وما أشبههن ، لعلم المخاطبين بما خاطبهم به بمراده - عز وجل - فيما سكت عنه ، وهكذا كلام العرب : تخاطب بالشيء حتى إذا علمت فهم المخاطبين بما أريد منهم ، أمسكوا عن بقيته ; لأنهم قد علموا عنه .

والقرآن قد جاء بهذا ، قال الله : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، ثم قال : بل لله الأمر جميعا .

فلم يخبر بغير ذلك مما قد اختلف أهل العلم باللغة في مراده - عز وجل - بذلك ، فقال بعضهم : هو : لكان هذا القرآن ، وقال بعضهم : هو : لكفروا به ، - والله أعلم بمراده في ذلك .

وقال - عز وجل - : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ولم يذكر ما كان يكون له ، ووصل ذلك بقوله وأن الله تواب حكيم .

[ ص: 239 ] وهذا كثير في كلام العرب ، وكان معقولا أن الكلالة ما يكلل على الموروث والميراث الذي تركه من يستحقه بالسبب الذي يتكلل به عليه ، وكان الولد غير متكلل عليه ; لأنه منه ، فكان مثل ذلك الوالد غير متكلل عليه ; لأنه منه ، فثبت بذلك : أن الكلالة ما عدا الوالد والولد جميعا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية