الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من [ ص: 371 ] القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون

الضمير في "يجعلون" للكفار، ويريد بـ "ما لا يعلمون " الأصنام، أي: لا يعلمون فيهم حجة ولا برهانا، ويحتمل أن يريد بقوله: "يعلمون" الأصنام، أي: يجعلون لجمادات وهي لا تعلم شيئا- نصيبا، فالمفعول محذوف، ثم عبر عنهم بعبارة من يعقل بحسب مذهب الكفار الذين يسندون إليها ما يسند إلى من يعقل، وبحسب أنه إسناد منفي، وهذا كله ضعيف. و "النصيب" المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها، والإهداء إليها، والقسم لها من الغلات.

ثم أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم لهم أنهم سيسألون على افترائهم في أن تلك السنن هي الحق الذي أمر الله به كما قال بعضهم، و"الفرية" اختلاق الكذب.

وقوله تعالى: ويجعلون لله البنات الآية. هذا تعديد لقبح قول الكفار: "الملائكة بنات الله"، ورد عليهم من وجهين: أحدهما نسبة النسل إلى الله تعالى عن ذلك، والآخر أنهم نسبوا من النسل الأخس المكروه عندهم، و"ما" في قوله: ما يشتهون مرتفعة بالابتداء، والخبر في المجرور، وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب عطفا على "البنات"، والبصريون لا يجيزون هذه الآية من باب: ضربني، وكان يلزم عندهم أن يكون: "ولأنفسهم ما يشتهون"، والمراد بـ ما يشتهون الذكران من الأولاد.

وقوله تعالى: وإذا بشر أحدهم الآية. لما صرح بالشيء المبشر به حسن ذكر البشارة فيه، وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير. وقوله: ظل وجهه مسودا عبارة عن العبوس والقطوب الذي يلحق المغموم، وقد يعلو وجه المغموم سواد [ ص: 372 ] وزبد، وتذهب شراقته، فلذلك يذكر له السواد. و"كظيم" بمعنى كاظم كعليم وعالم، والمعنى أنه يخفي وجهه وهمه بالأنثى.

وقوله: يتوارى من القوم الآية، هذا التواري الذي ذكر الله تعالى إنما هو بعد البشارة بالأنثى، وما يحكى أن الرجل منهم كان إذا أصاب امرأته الطلق; توارى حتى يخبر بأحد الأمرين. فليس المراد في الآية. ويشبه أن ذلك كان لكي: إذن أخبر بسار خرج، وإن أخبر بسوء بقي على تواريه ولم يحتج إلى إحداثه. ومعنى "يتوارى": يتغيب، وتقدير الكلام: يتوارى من القوم مدبرا، أيمسكه أم يدسها؟ وقرأت فرقة: "أيمسكه" على لفظ "ما"، "أم يدسها" على معنى الأنثى. وقرأ الجحدري : "أيمسكها"، "أم يدسها" على معنى الأنثى في الموضعين. وقرأ الجمهور: "على هون" بضم الهاء، وقرأت فرقة بفتحها، وقرأ عيسى بن عمر: "على هوان" وهي قراءة عاصم الجحدري، وقرأ الأعمش : "على سوء"، ومعنى الآية: يدبر: أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله، وهم يتخلد له، أم يئدها فيدفنها حية، فهو الدس في التراب، ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية