الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 173 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا أسلم الكافر ولم يجب عليه غسل في حال الكفر فالمستحب أن يغتسل ، لما روي : " أنه { أسلم قيس بن عاصم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل } ولا يجب ذلك لأنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وإن وجب عليه غسل في حال الكفر ولم يغتسل لزمه أن يغتسل ، وإن كان قد اغتسل في حال الكفر ، فهل يجب عليه إعادته ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا تجب إعادته لأنه غسل صحيح ، بدليل أنه تعلق به إباحة الوطء في حق الحائض إذا طهرت ، فلم تجب إعادته كغسل المسلم ( والثاني ) تجب إعادته وهو الأصح لأنه عبادة محضة ، فلم تصح من الكافر في حق الله تعالى ، كالصوم والصلاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث قيس بن عاصم حديث حسن رواه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية قيس بن عاصم هذا . قال الترمذي : حديث حسن ، وقيس هذا من سادات العرب كنيته أبو علي . وقيل : أبو قبيصة ، وقيل : أبو طلحة ، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم سنة تسع من الهجرة فأسلم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " { هذا سيد أهل الوبر } " وكان حليما عاقلا ، قيل للأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم ؟ قال : من قيس بن عاصم رضي الله عنه وقول المصنف : ( لأنه عبادة محضة ) احترز بعبادة عن البيع وغيره من المعاملات ، وبمحضة عن العدة والكفارة ، وقوله : ( فلم تصح من الكافر في حق الله ) احتراز من غسل الكافرة التي طهرت من الحيض ، فإنه عبادة محضة ويصح من الكافر لكن في حق الآدمي .

                                      أما أحكام الفصل ففيه ثلاث مسائل ( إحداها ) إذا أجنب الكافر ثم أسلم قبل الاغتسال لزمه الغسل ، نص عليه الشافعي واتفق عليه جماهير الأصحاب . وحكى الماوردي عن أبي سعيد الإصطخري وجها أنه لا يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة لقول الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولحديث عمرو بن العاص [ ص: 174 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الإسلام يهدم ما قبله } " رواه مسلم ، ولأنه أسلم خلق كثير لهم الزوجات والأولاد ، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وجوبا ، ولو وجب لأمرهم به ، وهذا الوجه ليس بشيء لأنه لا خلاف أنه يلزمه الوضوء ، فلا فرق بين أن يبول ثم يسلم ، أو يجنب ثم يسلم . وأما الآية الكريمة والحديث فالمراد بهما غفران الذنوب ، فقد أجمعوا على أن الذمي لو كان عليه دين أو قصاص لا يسقط بإسلامه ، ولأن إيجاب الغسل ليس مؤاخذة وتكليفا بما وجب في الكفر ، بل هو إلزام شرط من شروط الصلاة في الإسلام فإنه جنب ، والصلاة لا تصح من الجنب ، ولا يخرج بإسلامه عن كونه جنبا . والجواب عن كونهم لم يؤمروا بالغسل بعد الإسلام أنه كان معلوما عندهم ، كما أنهم لم يؤمروا بالوضوء لكونه معلوما لهم ، والفرق بين وجوب الغسل ومنع قضاء الصوم والصلاة من وجهين .

                                      أحدهما : ما سبق أن الغسل مؤاخذة بما هو حاصل في الإسلام وهو كونه جنبا بخلاف الصلاة . والثاني : أن الصلاة والصوم يكثران فيشق قضاؤهما وينفر عن الإسلام . وأما الغسل فلا يلزمه إلا غسل واحد ولو أجنب ألف مرة وأكثر فلا مشقة فيه .

                                      ( المسألة الثانية ) إذا أجنب واغتسل في الكفر ثم أسلم ففي وجوب إعادة الغسل وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ، أصحهما عند الأصحاب وجوب الإعادة ، ونص عليه الشافعي وقطع به القاضي أبو الطيب وآخرون ، وأجابوا عن احتجاج القائل الآخر بالحائض ، فقالوا : لا يلزم من صحته في حق الزوج للضرورة صحته بلا ضرورة ، قاسوه على المجنونة إذا طهرت من الحيض فغسلها زوجها ليستبيحها ، فإنها إذا أفاقت يلزمها الغسل ، وهذا على المذهب المشهور ، وفيها خلاف ضعيف سبق في آخر باب نية الوضوء ; ولا فرق في هذا بين الكافر المغتسل في الكفر والكافرة المغتسلة لحلها لزوجها المسلم . فالأصح في الجميع وجوب الإعادة ، وخالف إمام الحرمين الجمهور ، فصحح في الحائض عدم الإعادة ، وقد سبق هذا في آخر باب نية الوضوء .

                                      ( الثالثة ) إذا أسلم ولم يجنب في الكفر استحب أن يغتسل ، ولا يجب عليه الغسل بلا خلاف عندنا ، وسواء في هذا الكافر الأصلي والمرتد [ ص: 175 ] والذمي والحربي . قال الخطابي وغيره : وبهذا قال أبو حنيفة وأكثر العلماء . وقال مالك وأحمد وأبو ثور : يلزمه الغسل . واختاره ابن المنذر والخطابي . واحتجوا بحديث قيس بن عاصم ، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد وذكر الحديث وفي آخره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب فاغتسل ، ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله } " رواه البخاري وفي رواية للبيهقي وغيره { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه فأسلم فأطلقه وبعث به إلى حائط أبي طلحة ، وأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين } " . قال البيهقي : يحتمل أن يكون أسلم عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم اغتسل ودخل المسجد فأظهر الشهادة ثانيا جمعا بين الروايتين . واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف وهو أنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال ، ولأنه ترك معصية فلم يجب معه غسل كالتوبة من سائر المعاصي ، والجواب عن حديثيهما من وجهين ( أحدهما ) حملهما على الاستحباب جمعا بين الأدلة ، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر قيسا أن يغتسل بماء وسدر واتفقنا على أن السدر غير واجب ( الثاني ) أنه صلى الله عليه وسلم علم أنهما أجنبا لكونهما كانت لهما أولاد ، فأمرهما الغسل لذلك لا للإسلام والله أعلم .



                                      ( فرع ) يستحب للكافر إذا أسلم أن يحلق شعر رأسه ، نص عليه الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ والروياني والشيخ نصر وآخرون . احتجوا له بحديث عثيم ، بضم العين المهملة وفتح المثلثة ، عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أسلمت ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " { ألق عنك شعر الكفر يقول : احلق } ، رواه أبو داود والبيهقي وإسناده ليس بقوي ، لأن عثيما وكليبا ليسا بمشهورين ولا وثقا ، لكن أبا داود رواه لم يضعفه ، وقد [ ص: 176 ] قال : إنه إذا ذكر حديثا ولم يضعفه فهو عنده صالح ، أي صحيح أو حسن ، فهذا الحديث عنده حسن . ويستحب أن يغتسل بماء وسدر ، لما ذكرناه من حديث قيس . والله أعلم ،



                                      ( فرع ) إذا أراد الكافر الإسلام فليبادر به ولا يؤخره للاغتسال ، بل تجب المبادرة بالإسلام ، ويحرم تحريما شديدا تأخيره للاغتسال وغيره ، وكذا إذا استشار مسلما في ذلك حرم على المستشار تحريما غليظا أن يقول له أخره إلى الاغتسال ، بل يلزمه أن يحثه على المبادرة بالإسلام . هذا هو الحق والصواب . وبه قال الجمهور . وحكى الغزالي رحمه الله في باب الجمعة وجها أنه يقدم الغسل على الإسلام ليسلم مغتسلا . قال : وهو بعيد ، وهذا الوجه غلط ظاهر لا شك في بطلانه وخطأ فاحش ، بل هو من الفواحش المنكرات ، وكيف يجوز البقاء على أعظم المعاصي وأفحش الكبائر ورأس الموبقات وأقبح المهلكات لتحصيل غسل لا يحسب عبادة لعدم أهلية فاعله . وقد قال صاحب التتمة في باب الردة : لو رضي مسلم بكفر كافر ، بأن طلب كافر منه أن يلقنه الإسلام فلم يفعل ، أو أشار عليه بأن لا يسلم أو أخر عرض الإسلام عليه بلا عذر ، صار مرتدا في جميع ذلك ، لأنه اختار الكفر على الإسلام . وهذا الذي قاله إفراط أيضا ، بل الصواب أن يقال : ارتكب معصية عظيمة . وأما قول النسائي في سننه : باب تقديم غسل الكافر إذا أراد أن يسلم ، واحتج بحديث أبي هريرة أن ثمامة انطلق فاغتسل ثم جاء فأسلم فليس بصحيح ولا دلالة فيما ذكره لما ادعاه . والله أعلم . ويتعلق بهذا الفصل مسائل نفيسة تقدمت في أواخر باب نية الوضوء . وبالله التوفيق




                                      الخدمات العلمية