الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قوله لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم

                                                                                                                                                                                                        4345 حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي حدثنا أبي حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل من أبي قال فلان فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم رواه النضر وروح بن عبادة عن شعبة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : باب قوله لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم سقط " باب قوله " لغير أبي ذر ، وقد تعلق بهذا النهي من كره السؤال عما لم يقع ، وقد أسنده الدارمي في مقدمة كتابه عن جماعة من الصحابة والتابعين . وقال ابن العربي : اعتقد قوم من الغافلين منع أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية ، وليس كذلك ، لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه ، ومسائل النوازل ليست كذلك . وهو كما قال ، إلا أنه أساء في قوله الغافلين على عادته كما نبه عليه القرطبي . وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رفعه أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وهذا يبين المراد من الآية ، ليس مما أشار إليه ابن العربي في شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن ) أي ابن حبيب بن علياء بن حبيب بن الجارود العبدي البصري الجارودي نسبة إلى جده الأعلى ، وهو ثقة ، وليس له في البخاري إلا هـذا الحديث وآخر في كفارات الأيمان ، وأبوه ما له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع ، ولا رأيت عنه راويا إلا ولده ، وحديثه هذا في المتابعات ، فإن المصنف أورده في الاعتصام من رواية غيره كما سأبينه .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        وقع في كلام أبي علي الغساني فيما حكاه الكرماني أن البخاري روى هذا الحديث عن محمد غير منسوب عن منذر هذا وأن محمدا المذكور هو ابن يحيى الذهلي ، ولم أر ذلك في شيء من الروايات التي عندنا من البخاري ، وأظنه وقع في بعض النسخ " حدثنا محمد " غير منسوب والمراد به البخاري المصنف والقائل ذلك الراوي عنه وظنوه شيخا للبخاري ، وليس كذلك ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أنس ) في رواية روح بن عبادة عن شعبة في الاعتصام " أخبرني موسى قال سمعت أنس بن مالك يقول " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط قال : لو تعلمون ما أعلم ) وقع عند مسلم من طريق النضر بن شميل عن شعبة في أوله زيادة يظهر منها سبب الخطبة ولفظه بلغ صلى الله [ ص: 131 ] عليه وسلم عن أصحابه شيء ، فخطب فقال : عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر ، ولو تعلمون ما أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال فغطى ) في رواية النضر بن شميل قال فما أتى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم كان أشد من ذلك ، غطوا رءوسهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لهم حنين ) بالحاء المهملة للأكثر ، وللكشميهني بالخاء المعجمة ، والأول الصوت الذي يرتفع بالبكاء من الصدر ، والثاني من الأنف . وقال الخطابي : الحنين بكاء دون الانتحاب ، وقد يجعلون الحنين والخنين واحدا إلا أن الحنين من الصدر أي المهملة والخنين من الأنف بالمعجمة . وقال عياض [1]

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال رجل : من أبي ؟ قال : أبوك فلان ) تقدم في العلم أنه عبد الله بن حذافة . وفي رواية للعسكري " نزلت في قيس بن حذافة " وفي رواية للإسماعيلي يأتي التنبيه عليها في كتاب الفتن " خارجة بن حذافة " والأول أشهر ، وكلهم له صحبة ، وتقدم فيه أيضا زيادة من حديث أبي موسى وأحلت بشرحه على كتاب الاعتصام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، فاقتصر هنا على بيان الاختلاف في سبب نزول الآية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فنزلت هذه الآية ) هكذا أطلق ولم يقع ذلك في سياق الزهري عن أنس مع أنه أشبع سياقا من رواية موسى بن أنس كما تقدم في أوائل المواقيت ، ولذا لم يذكر ذلك هلال بن علي عن أنس كما سيأتي في كتاب الرقاق . ووقع في الفتن من طريق قتادة عن أنس في آخر هذا الحديث بعد أن ساقه مطولا قال " فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن قتادة عن أنس قال سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر فقال : لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ، فجعلت ألتفت عن يمين وشمال فإذا كل رجل لاف ثوبه برأسه يبكي الحديث ، وفيه قصة عبد الله بن حذافة ، وقول عمر روى الطبري من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبان ، محمار وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : أين أنا قال : في النار . فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : حذافة . فقام عمر - فذكر كلامه وزاد فيه - وبالقرآن إماما ، قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية وهذا شاهد جيد لحديث موسى بن أنس المذكور . وأما ما روى الترمذي من حديث علي قال لما نزلت ولله على الناس حج البيت قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت . ثم قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ فقال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبت . فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا فهذا لا ينافي حديث أبي هريرة لاحتمال أن تكون نزلت في الأمرين ، ولعل مراجعتهم له في ذلك هي سبب غضبه . وقد روى أحمد من حديث أبي هريرة والطبري من حديث أبي أمامة نحو حديث علي هذا ، وكذا أخرجه من وجه ضعيف ومن آخر منقطع عن ابن عباس ، وجاء في سبب نزولها قول ثالث وهو ما يدل عليه حديث ابن عباس في الباب عقب هذا وهو أصح إسنادا ، لكن لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها والله أعلم . وجاء في سبب نزولها قولان آخران ، فأخرج الطبري وسعيد بن منصور من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس : أن المراد بالأشياء البحيرة والوصيلة والسائبة والحام . قال فكان عكرمة يقول : إنهم كانوا يسألون عن الآيات ، فنهوا عن ذلك . قال : والمراد بالآيات نحو سؤال قريش أن يجعل الصفا لهم ذهبا ، وسؤال اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء ونحو ذلك . أخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الكريم عن عكرمة قال : نزلت في الذي سأل عن أبيه . وعن سعيد بن جبير في الذين سألوا عن [ ص: 132 ] البحيرة وغيرها ، وعن مقسم فيما سأل الأمم أنبياءها عن الآيات . قلت : وهذا الذي قاله محتمل ، وكذا ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق عطية قال " نهوا أن يسألوا مثل ما سأل النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين " وقد رجحه الماوردي ، وكأنه من حيث المعنى ; لوقوع قصة المائدة في السورة بعد ذلك ، واستبعد نزولها في قصة من سأل عن أبيه أو عن الحج كل عام ، وهو إغفال منه لما في الصحيح ، ورجح ابن المنير نزولها في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن ، واستند إلى كثير مما أورده المصنف في " باب ما يكره من كثرة السؤال " في كتاب الاعتصام وهو متجه ، لكن لا مانع أن تتعدد الأسباب ، وما في الصحيح أصح . وفي الحديث إيثار الستر على المسلمين ، وكراهة التشديد عليهم ، وكراهة التنقيب عما لم يقع ، وتكلف الأجوبة لمن يقصد بذلك التمرن على التفقه ، فالله أعلم . وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رواه النضر ) هو ابن شميل ( وروح بن عبادة عن شعبة ) أي بإسناده ، ورواية النضر وصلها مسلم ، ورواية روح بن عبادة وصلها المؤلف في كتاب الاعتصام .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية