الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب في الخطبة

                                                                      4841 حدثنا مسدد وموسى بن إسمعيل قالا حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء

                                                                      التالي السابق


                                                                      ( كل خطبة ) : بضم الخاء ، وقال القاري بكسر الخاء ، وهي التزوج ، والظاهر هو الأول ( ليس فيها تشهد ) : وفي رواية شهادة ، وأراد الشهادتين من إطلاق الجزء على الكل قاله المناوي .

                                                                      وقال القاري : أي حمد وثناء على الله . ونقل عن التوربشتي أن أصل التشهد قولك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم - ( فهي كاليد الجذماء ) : أي المقطوعة التي لا فائدة فيها لصاحبها . والجذم سرعة القطع ، وقيل الجذماء من الجذام وهو داء معروف تنفر عنه الطباع .

                                                                      قال المنذري : وأخرجه الترمذي وقال حسن غريب . انتهى .

                                                                      فائدة : اعلم أن السنة في ابتداء جميع الأمور الحسنة أن يقول : بسم الله الرحمن الرحيم لما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع وهو حديث حسن كما ستقف عليه ولا يقتصر على بسم الله إلا في المواضع التي ثبت فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على بسم الله ، فالسنة في [ ص: 153 ] هذه المواضع الاقتصار على لفظ بسم الله . والتفصيل أن الأحاديث الواردة في التسمية على أربعة أقسام .

                                                                      الأول : ما وقع فيه بسم الله الرحمن الرحيم تاما كحديث علي - رضي الله عنه - مرفوعا " إذا وقعت في ورطة فقل بسم الله الرحمن الرحيم " رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة . وكحديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : " مرضت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذني فعوذني يوما فقال بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد " الحديث رواه ابن السني .

                                                                      وكحديث أبي هريرة الذي رواه النسائي وابن خزيمة والسراج وابن حبان وغيرهم من طريق سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال : صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين فقال آمين وقال الناس : آمين " الحديث وفي آخره " إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم - " ذكره الحافظ في الفتح .

                                                                      والقسم الثاني : ما وقع فيه لفظ بسم الله فقط من غير زيادة عليه ، كحديث عبد الرحمن بن جبير أنه حدثه رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين أنه كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه طعاما يقول بسم الله فإذا فرغ من طعامه قال : " اللهم أطعمت وسقيت " الحديث رواه ابن السني .

                                                                      قال النووي في الأذكار بإسناد حسن . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيبه عمر بن أبي سلمة " قل بسم الله وكل بيمينك " الحديث رواه مسلم .

                                                                      وقال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن عمير " لا تقل هكذا ( أي تعس الشيطان ) : فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت ، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة " رواه النسائي في اليوم والليلة ، وابن مردويه في تفسيره . كذا في تفسير ابن كثير رحمه الله .

                                                                      والقسم الثالث : ما وقع فيه بسم الله مع زيادة معه غير لفظ الرحمن الرحيم كحديث ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا إذا وضعتم موتاكم في القبر فقولوا بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن .

                                                                      وكحديث عثمان - رضي الله عنه - مرفوعا " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء " الحديث رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود .

                                                                      [ ص: 154 ] وكحديث ابن عباس مرفوعا لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا الحديث رواه الشيخان .

                                                                      وكحديث أنس - رضي الله عنه - قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر قال رأيته واضعا قدمه على صفاحهما ويقول بسم الله والله أكبر رواه الشيخان .

                                                                      والقسم الرابع : ما وقع فيه ذكر اسم الله من غير تصريح بلفظ بسم الله الرحمن الرحيم ولا بلفظ بسم الله كحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا " إذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله " الحديث رواه أبو داود والترمذي .

                                                                      وكحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني وابن السكن والحاكم والبيهقي قاله الحافظ .

                                                                      وكحديث جابر إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان واذكروا اسم الله عليها رواه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وغير ذلك من الأحاديث .

                                                                      ففي المواضع التي ثبت فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول ببسم الله الرحمن الرحيم بتمامه لا يحصل السنة إلا بقوله تاما وكاملا ، وإن اقتصر في تلك المواضع على بسم الله أو على بسم الله الرحمن لا يحصل السنة البتة .

                                                                      وفي المواضع التي ثبت فيها الاقتصار على لفظ بسم الله من غير زيادة عليه فالمسنون في تلك المواضع القصر بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والتكميل بقوله صلى الله عليه وسلم لأن هذه المواضع داخلة تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع .

                                                                      فكيف يكون من قال في هذه المواضع بسم الله الرحمن الرحيم تاما وكاملا مبتدعا ، وكيف يكون قوله بدعة بل يكون سنة قوليا .

                                                                      وفي الاختيارات العلمية في اختيارات الشيخ ابن تيمية ويقول عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كاملا فإنه أكمل بخلاف الذبح . انتهى .

                                                                      [ ص: 155 ] وأما المواضع التي ورد فيها بسم الله مع زيادة عليه غير لفظ الرحمن الرحيم فالمسنون فيها أن يقتصر على بسم الله مع تلك الزيادة ، وليس لأحد أن يزيد بين بسم الله وبين تلك الزيادة لفظ الرحمن الرحيم ؛ لأن مجموع بسم الله وتلك الزيادة دعاء واحد أو ذكر واحد ولم يثبت جواز زيادة بين كلمات دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وذكره فلا يجوز لأحد أن يقول عند الذبح بسم الله الرحمن الرحيم والله أكبر .

                                                                      وأما المواضع التي جاء فيها ذكر اسم الله من غير تصريح ببسم الله الرحمن الرحيم أو ببسم الله فالأفضل أن يقول فيها بسم الله الرحمن الرحيم بتمامه من ثلاثة وجوه :

                                                                      الأول : أنه إذا أتى في هذه المواضع ببسم الله الرحمن الرحيم بتمامه كان محرزا ما ورد في القول ببسم الله الرحمن الرحيم بتمامه من الفضيلة .

                                                                      والوجه الثاني : أنه إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم بتمامه فقد أتى بما هو المراد من ذكر اسم الله بيقين ، وأما إذا أتى ببسم الله فقط أو بلفظ آخر مثلا بالرب أو بالخالق فلا شك أنه أتى بذكر اسم الله ، لكن فيه احتمال أن يكون المراد من ذكر اسم الله هو القول ببسم الله الرحمن الرحيم بتمامه وكماله كما هو المعهود في كثير من المواضع .

                                                                      والوجه الثالث : عموم قوله صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع وهو حديث حسن .

                                                                      قال النووي في الأذكار : وروينا في سنن أبي داود وابن ماجه ومسند أبي عوانة والتزويج المخرج على صحيح مسلم - رحمهم الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع وفي رواية " بحمد الله " وفي رواية " بالحمد فهو أقطع " وفي رواية " كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم " وفي رواية " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع " روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي وهو حديث حسن ، وقد روي موصولا كما ذكرنا وروي مرسلا ، ورواية الموصول جيدة الإسناد ، وإذا روي الحديث موصولا ومرسلا فالحكم للاتصال عند جمهور العلماء لأنها زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير . انتهى .

                                                                      وقال في شرح صحيح مسلم : وإنما بدأ بالحمد لله لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع وفي رواية " بحمد الله " [ ص: 156 ] وفي رواية " بالحمد فهو أقطع " وفي رواية " أجذم " وفي رواية " لا يبدأ فيه بذكر الله تعالى " وفي رواية " ببسم الله الرحمن الرحيم " روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي بسماعنا من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري عنه ورويناه فيه أيضا من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه ، والمشهور رواية أبي هريرة ، وهذا الحديث حسن رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما ، ورواه النسائي في كتابه عمل اليوم والليلة ، وروي موصولا ومرسلا ، ورواية الموصول إسنادها جيد . انتهى .

                                                                      وفي فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع أخرجه ابن حبان من طريقين .

                                                                      قال ابن الصلاح : والحديث حسن . ولأبي داود وابن ماجه كل ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع ، ولأحمد كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع . انتهى .

                                                                      فالحاصل أن هذه الوجوه تدل على أن في هذه المواضع الأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم بتمامه ، وإن قال بسم الله فقط فقد ذكر اسم الله بلا شبهة وكفاه ، ولذلك قال النووي في الأذكار : من أهم ما ينبغي أن يعرف صفة التسمية وقدر المجزئ منها فاعلم أن الأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن قال بسم الله كفاه وحصلت السنة ، وسواء في هذا الجنب والحائض وغيرهما . انتهى .

                                                                      وأما تعقب الحافظ بن حجر على كلام النووي هذا في فتح الباري بقوله : وأما قول النووي في أدب الأكل من الأذكار صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته ، والأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن قال بسم الله كفاه وحصلت السنة ، فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلا خاصا انتهى . فمتعقب ، كيف وقد رأيت وجوها ثلاثة للأفضلية . هذا عندي والله تعالى أعلم .




                                                                      الخدمات العلمية