الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أجمع آية في كتاب الله آية في سورة النحل، وتلا هذه الآية، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب، فتعجب وقال: "يا آل غالب اتبعوه تفلحوا، فوالله إن الله أرسله إليكم ليأمر بمكارم الأخلاق"، وحكى النقاش قال: كان يقال: "زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

العدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق، والإحسان هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما فرض، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على حد الإجزاء داخل في الإحسان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما فيما حكى الطبري : العدل: لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وفي هذا القسم الأخير نظر; لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسب ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عليه السلام، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان: التكميلات والمندوب إليه حسب ما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال جبريل عليه السلام بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، فإن صح هذا عن ابن [ ص: 400 ] عباس رضي الله عنهما فإنما أراد أداء الفرائض مكملة.

وإيتاء ذي القربى لفظة تقتضي صلة الرحم، وتعم جميع إسداء الخير إلى القرابة. وتركه مبهما أبلغ; لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية -وإن علت- يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب ذي القربى داخل تحت العدل والإحسان، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به وحتما عليه.

و"الفحشاء": الزنى -قاله ابن عباس - وغيره من المعاصي التي شنعتها ظاهرة، وفاعلها أبدا متستر بها، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج و"المنكر" أعم منه; لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والإذايات على اختلاف أنواعها، و"البغي" هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره بالناس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا ذنب أسرع عقوبة من بغي"، وقال عليه الصلاة والسلام: "الباغي مصروع"، وقد وعد الله من بغي عليه بالنصر، وفي بعض الكتب المنزلة: "لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكا".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتغيير المنكر فرض على الولاة، إلا أن المغير لا يعن لمستور، ولا يعمل ظنا، ولا يتجسس، ولا يغير إلا ما بدت صفحته، ويكون أمره ونهيه بمعروف، وهذا كله [ ص: 401 ] لغير الولاة ألزم، وفرض على المسلمين عامة، ما لم يخف المغير إذاية أو ذلا، ولا يغير المؤمن بيده ما وجد سلطانا، فإن عدمه غير بيده، إلا أنه لا يصل إلى نصب القتال والمداراة وإعمال السلاح إلا مع الرياسة والإمام المتبع، وينبغي للناس أن يغير المنكر منهم كل أحد منهم، تقي وغير تقي، ولو لم يغير إلا تقي لم يتغير منكر في الأغلب، وقد ذم الله تعالى قوما بأنهم لم يتناهوا عنه، وكل منكر فيه مدخل للنظر فلا مدخل لغير حملة العلم فيه، فهذه نبذة من القول في تغيير المنكر تضمنت ثمانية شروط، وروي أن جماعة من الصحابة رفعت على عاملها إلى أبي جعفر المنصور، فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شيء. فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله أمر بالعدل والإحسان، وإنه عدل ولم يحسن، قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل.

وقوله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم الآية. يتضمن قوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية التي قبلها: "افعلوا كذا وانتهوا عن كذا"، فعطف على ذلك التقدير قوله: "وأوفوا"، و "عهد الله" لفظ لجميع ما يعقد باللسان ويلزمه الإنسان، من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وقوله: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها خص في هذه الآية الألفاظ المعهودة التي يقرن بها أيمان تهمما بها وتنبيها عليها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا كله فيما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله تعالى وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق فهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير"، ويقال: توكيد وتأكيد، ووكد [ ص: 402 ] وأكد، وهما لغتان، وقال الزجاج : الهمزة مبدلة من الواو.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا غير بين; لأنه ليس في وجود تصريفه ما يدل على ذلك.

و"كفيلا" معناه: متكفلا بوفائكم، وباقي الآية وعيد في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، رواه أبو ليلى عن بريدة، وقال قتادة ، ومجاهد ، وابن زيد : نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فزادها الإسلام شدة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة"، وهذا حديث معنى، وإن كان السبب بعض هذا الأشياء فألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين.

التالي السابق


الخدمات العلمية