الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( و لا يضار كاتب ولا شهيد )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : ذلك نهي من الله الكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله ، فيكتب هذا ما لم يملله المملي ، ويشهد هذا بما لم يستشهده المستشهد .

ذكر من قال ذلك :

6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله : " " ولا يضار كاتب ولا شهيد " " ولا يضار كاتب " فيكتب ما لم يمل عليه " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن يونس قال : كان الحسن يقول : " لا يضار كاتب " فيزيد شيئا أو يحرف " ولا شهيد " قال : لا يكتم الشهادة ، ولا يشهد إلا بحق . [ ص: 86 ]

6410 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : اتقى الله شاهد في شهادته ، لا ينقص منها حقا ولا يزيد فيها باطلا . اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقا ولا يزيدن فيه باطلا .

6411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملل " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

6411 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب ما لم يملل " ولا شهيد " فيشهد بما لم يستشهد .

6412 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن قتادة نحوه .

6413 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : " لا يضار كاتب " فيكتب غير الذي أملي عليه . قال : والكتاب يومئذ قليل ، ولا يدرون أي شيء يكتب ، فيضار فيكتب غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم . قال : والشهيد يضار فيحول شهادته ، فيبطل حقهم .

قال أبو جعفر : فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارر كاتب ولا شهيد ، ثم أدغمت " الراء " في " الراء " لأنهما من جنس ، وحركت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأن الفتح أخف الحركات .

وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة . [ ص: 87 ]

ذكر من قال ذلك :

6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج عن عطاء في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : أن يؤديا ما قبلهما .

6415 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قلت لعطاء . " ولا يضار كاتب ولا شهيد " ؟ قال : " لا يضار " أن يؤديا ما عندهما من العلم .

6416 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال أخبرنا ابن المبارك عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال : " لا يضار " كاتب ولا شهيد " قال : أن يدعوهما ، فيقولان : إن لنا حاجة .

6417 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء ومجاهد : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قالا واجب على الكاتب أن يكتب " ولا شهيد " قالا إذا كان قد شهد اقبله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : " ولا يضار المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد " . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضارر ، على وجه ما لم يسم فاعله .

ذكر من قال ذلك :

6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال كان عمر يقرأ : " ولا يضارر كاتب ولا شهيد " . [ ص: 88 ]

6419 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال سمعت الضحاك قال : كان ابن مسعود يقرأ : ( ولا يضارر ) .

6420 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد أنه كان يقرأ : " ولا يضارر كاتب ولا شهيد " وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته وقال مجاهد : لا يقم عن شغله وحاجته ، فيجد في نفسه أو يحرج .

6421 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني : إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ! فيضاره بذلك ، وهو مكتف بغيره . فنهاه الله - عز وجل - عن ذلك وقال : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " .

6422 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد; فيقول : خلوا سبيله .

6423 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن يونس عن عكرمة في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول : فلا يضاره .

6424 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : لا يأت الرجل فيقول : انطلق فاكتب لي ، واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمس غيري ! فيقول : اتق الله ، فإنك قد أمرت أن تكتب لي ! فهذه المضارة ، ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهد بتلك المنزلة . [ ص: 89 ]

6425 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد ، فيقول الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة ! فيقول الذي يدعوهما : إن الله - عز وجل - أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ! يقول الله - عز وجل - لا يضارهما .

6426 - حدثت عن الحسن قال سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا ! فيقول : والله لقد أمركما أن تجيبا ! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما ، يعني : لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما .

6427 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له : اكتب لي ! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي ! تحبسه عن حاجته ، وأنت تجد غيره .

6428 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قال : لما نزلت هذه الآية : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ! فيقول : إني مشغول أو : لي حاجة ، فانطلق إلى غيري ! فيلزمه ويقول : إنك [ ص: 90 ] قد أمرت أن تكتب لي ! فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره . ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي فاشهد لي ! فيقول : انطلق إلى غيري فإني مشغول أو لي حاجة ! فيلزمه ويقول : قد أمرت أن تتبعني . فيضاره بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله - عز وجل - : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " .

6429 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " يقول : إن لي حاجة فدعني ! فيقول : اكتب لي " ولا شهيد " كذلك .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : " ولا يضار كاتب ولا شهيد " بمعنى : ولا يضارهما من استكتب هذا أو استشهد هذا ، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل .

وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله - عز وجل - في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه : " افعلوا أو : لا تفعلوا " إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون . فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب ، كقوله : " وليكتب بينكم كاتب " وكقوله : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " وما أشبه ذلك . فالوجه إذ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " [ بأن يكون [ ص: 91 ] الأمر مردودا على المستكتب والمستشهد ] ، أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد . ومع ذلك فإن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل : وإن يفعلا فإنه فسوق بهما ، لأنهما اثنان ، وأنهما غير مخاطبين بقوله : " ولا يضار " بل النهي بقوله : " ولا يضار " نهي للغائب غير المخاطب . فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية ، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية