الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) قرأ الأخوان : ( وإن هذا ) بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف ، ( فاتبعوه ) جملة معطوفة على الجملة المستأنفة . وقرأ الباقون بفتحها ، وخفف ابن عامر النون ، وشددها الباقون . وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق : ( وإن ) [ ص: 254 ] كقراءة ابن عامر ، فأما تخفيف النون فعلى أنه حذف اسم إن وهو ضمير الشأن ، وخرجت قراءة فتح الهمزة على وجوه : أحدها : أن يكون تعليلا حذف منها اللام ، تقديره : ولأن هذا ( صراطي مستقيما فاتبعوه ) ، كقوله : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) ، وقد صرح باللام في قوله : ( لإيلاف قريش إيلافهم ) ، ( فليعبدوا ) . قال الفارسي : قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة بمنزلتها في زيد فقام . الوجه الثاني : أن تكون معطوفة على ( أن لا تشركوا ) ، أي : أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد وأتل عليكم أن هذا صراطي ، وهذا على تقدير أن ( أن ) في ( أن لا تشركوا ) مصدرية ، قاله الحوفي ، هكذا قرروا هذا الوجه فجعلوه معطوفا على البدل مما حرم ، وهو " أن لا تشركوا " . وقال أبو البقاء : إنه معطوف على المبدل منه ، أي : أتل الذي حرم وأتل أن هذا ( صراطي مستقيما ) ، وهو تخريج سائغ في الكلام ، وعلى هذا فالصراط مضاف للمتكلم وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصراطه هو صراط الله . الوجه الثالث : أن يكون في موضع جر عطفا على الضمير في به ، قاله الفراء ، أي : وصاكم به ، وبأن حذفت الباء لطول أن بالصلة . قال الحوفي : وهي مرادة ، ولا يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها . وقال أبو البقاء : هذا فاسد لوجهين ، أحدهما عطف المظهر على المضمر من غير إعادة الجار ، والثاني أنه يصير المعنى : وصاكم باستقامة الصراط . وقرأ الأعمش : و ( هذا صراطي ) ، وكذا في مصحف عبد الله ، ولما فصل في الآيتين قبل أجمل في هذه إجمالا يدخل فيه جميع ما تقدم وجميع شريعته ، والإشارة بهذا إلى الإسلام أو القرآن أو ما ورد في هذه السورة ; لأنها كلها في التوحيد وأدلة النبوة وإثبات الدين وإلى هذه الآيات التي أعقبتها هذه الآية ; لأنها المحكمات التي لم تنسخ في ملة من الملل ، أقوال أربعة . ( فاتبعوه ) أمر باتباعه كله ، والمعنى : فاعملوا بمقتضاه من تحريم وتحليل وأمر ونهي وإباحة .

( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) قال ابن عباس : هي الضلالات ، قال مجاهد : البدع والأهواء والشبهات . وقال مقاتل : ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث . وقيل : سبل الكفر كاليهودية والنصرانية والمجوسية وما يجري مجراهم في الكفر والشرك ، وفي مسند الدارمي عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما خطا ثم قال : " هذا سبيل الله " ، ثم خط خطوطا عن يمينه ويساره ثم قال : " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها " ، ثم قرأ هذه الآية ، وعن جابر نحو منه في سنن ابن ماجه . وانتصب " فتفرق " لأجل النهي جوابا له ، أي : فتفرق ، فحذف التاء . وقرئ : ( فتفرق ) بتشديد التاء .

( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) كرر التوصية على سبيل التوكيد ، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وأمر تعالى باتباعه ونهى عن بنيات الطرق ، ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار ، إذ من اتبع صراطه نجاه النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية . قال ابن عطية : ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله ، جاءت العبادة ( لعلكم تعقلون ) ، والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر ، وركوب الجادة الكاملة تتضمن فعل الفضائل وتلك درجة التقوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية