الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون

كرر النهي عن اتخاذ الأيمان تهمما بذلك، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه من [ ص: 405 ] الدين، وتردده في معاشرات الناس، و "الدخل" -كما قلنا- الغوائل. وقوله: فتزل قدم بعد ثبوتها استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه; لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير:


فلما توافينا ثبت وزلت



أي: تنقلت من حال إلى حال، فاستعار لها الزلل، ومنه يقال لمن أخطأ في الشيء: زل فيه. ثم توعد بعد بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وقوله: بما صددتم عن سبيل الله يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا الآية. هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الآخذ تركه، أو ترك ما يجب عليه فعله، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عباده فيها، فمن أخذ على ذلك مالا فقد أعطى عهد الله وأخذ قليلا من الدنيا، ثم أخبر تبارك وتعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى، ثم بين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان أو ينقضي عنها، وأن الآخرة باقية دائمة، وقرأ ابن كثير ، وعاصم : "ولنجزين" [ ص: 406 ] بنون، وقرأ الباقون: "وليجزين" بالياء، ولم يختلفوا في قوله: "ولنجزينهم" أنه بالنون، كذا قال أبو علي ، وقال أبو حاتم : إن نافعا روي عنه: "وليجزينهم" بالياء. و"صبروا" معناه: عن الشهوات وعلى مكاره الطاعة، وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المذكورة، وقوله: "بأحسن" أي: بقدر أحسن ما كانوا يعملون.

وقوله تعالى: من عمل صالحا يعم جميع أعمال الطاعة، ثم قيده بالإيمان، واختلف الناس في الحياة الطيبة -فقال ابن عباس ، والضحاك : هو الرزق الحلال، وقال الحسن ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي القناعة، وهذا أطيب عيش الدنيا، وقال ابن عباس - أيضا: هي السعادة، وقال الحسن البصري: الحياة الطيبة هي حياة الآخرة ونعيم الجنة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهناك هو الطيب على الإطلاق، ولكن ظاهر هذا الوعد أنه في الدنيا، والذي أقول: إن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة، أو قناعة فذلك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب، وجاء قوله: فلنحيينه حياة طيبة على لفظ "من"، وجاء قوله: "ولنجزينهم" على معناها، وهذا وعد بنعيم الجنة، وباقي الآية بين.

وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال: نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا، وقال كل منهم: ملتي أفضل، فعرفهم الله تعالى في هذه الآية أفضل الملل.

التالي السابق


الخدمات العلمية