الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                      ( باب حد المسكر ) السكر اختلاط العقل قال الجوهري : السكران خلاف الصاحي والجمع سكرى وسكارى بضم السين وفتحها والمرأة سكرى ولغة بني أسد سكرانة والمسكر اسم فاعل من أسكر الشراب إذا جعل صاحبه سكران أو كان فيه قوة تفعل ذلك وهو محرم بالإجماع وما نقل عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معدي كرب وابن جندل بن سهيل أنها حلال فمرجوع عنه .

                                                                                                                      نقله الموفق والشارح وغيرهما وسنده قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب } الآيات وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر { كل مسكر خمر } .

                                                                                                                      وفي لفظ { كل مسكر حرام } رواهما مسلم ( كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام لحديث جابر مرفوعا قال : { ما أسكر كثيره فقليله حرام } ) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه ( من أي شيء كان ) لما روي أن عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما بعد : أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خمر العقل " متفق عليه ( ويسمى ) كل شراب أسكر ( خمرا ) لقوله صلى الله عليه وسلم : { كل مسكر خمر وكل خمر حرام } رواه أبو داود ( ولا يجوز شربه ) أي المسكر ( للذة ولا لتداو ) لما روى وائل بن حجر { أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه وكره له أن يصنعها فقال : إنما أصنعها [ ص: 117 ] للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء } رواه مسلم .

                                                                                                                      وقال ابن مسعود " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " رواه البخاري ( ولا عطش بخلاف ما نجس ) لما فيه من البرد والرطوبة بخلاف المسكر .

                                                                                                                      فإنه لا يحصل به ري لأن فيه من الحرارة ما يزيد العطش ( ولا ) يجوز استعمال المسكر في ( غيره ) أي غير ما ذكر ( إلا لمكره ) فيجوز له تناول ما أكره عليه فقط لحديث : { عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } ( أو مضطر إليه ) خاف التلف ( لدفع لقمة غص بها وليس عنده ما يسيغها ) فيجوز له تناوله .

                                                                                                                      لقوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ولأن حفظ النفس مطلوب بدليل إباحة الميتة عند الاضطرار إليها وهو موجود هنا ( وتقدم عليه ) أي المسكر ( بول ) لوجوب الحد باستعمال المسكر دون البول ( ويقدم عليهما ) أي على المسكر والبول ( ماء نجس ) لأن الماء مطعوم بخلاف البول وإنما منع من حل استعماله نجاسته ( وفي المغني وغيره ) كالشرح ( إن شربها ) أي الخمر ( لعطش فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة ) كما تباح الميتة عند المخمصة وكإباحتها لدفع الغصة ( وإن شربها صرفا أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش لم تبح ) لعدم حصول المقصود بها لأنها لا تروي بل تزيده عطشا ( وعليه الحد انتهى ) .

                                                                                                                      لأن اليسير المستهلك فيها لم يسلب عنها اسم الخمر ( وإذا شربه ) أي المسكر ( الحر المسلم المكلف مختارا ) لحله لمكره ( عالما أن كثيره يسكر سواء كان ) الشراب المسكر ( من عصير العنب أو غيره من المسكرات ) لما سبق ( قليلا كان ) الذي شربه من المسكر ( أو كثيرا أو لم يسكر الشارب فعليه الحد ) لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من شرب الخمر فاجلدوه } رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد ثبت أن أبا بكر وعمر وعليا جلدوا شاربها .

                                                                                                                      ولأن القليل خمر فيدخل في العموم ( ثمانون جلدة ) لإجماع الصحابة لما روي : أن عمر استشار الناس في حد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن : اجعله كأخف الحدود ثمانين جلدة فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام وروي أن عليا قال في المشورة : " إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون " رواه الجوزجاني .

                                                                                                                      والفرق بين هذا وبين سائر المختلف [ ص: 118 ] فيه أن السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قد استفاضت بتحريم المختلف فيه هنا فلم يبق لأحد عذر في اعتقاد إباحته وقد عمم قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم إباحة ما شربوه بخلاف غيره من المجتهدات ( والرقيق ) إذا شرب المسكر وكان مكلفا مختارا عالما به حده ( أربعون ) عبدا كان أو أمة كالزنا والقذف ( ولا حد ولا إثم على مكره على شربها سواء أكره بالوعيد أو بالضرب أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه ) ويصب فيه ( المسكر ) لما تقدم ( وصبره ) أي المكره ( على الأذى أولى من شربها وكذا كل ما جاز فعله لمكره ) فصبره على الأذى أولى من فعله ( ولا ) حد أيضا ( على جاهل تحريمها ) لأن الحدود تدرأ بالشبهات ( فلو ادعى الجهل ) بتحريم المسكر ( مع نشأته بين المسلمين لم يقبل ) منه ذلك لأنه خلاف الظاهر .

                                                                                                                      ( ولا تقبل ) أي لا تسمع ( دعوى الجهل بالحد ) فإذا علم أن الخمر يحرم لكن جهل وجوب الحد بشربه حد ولم تنفعه دعوى الجهل بالعقوبة كما مر في الزنا ( ويحد من احتقن به ) أي المسكر ( أو استعط ) به ( أو تمضمض به فوصل إلى حلقه أو أكل عجينا لت به ) لأن ذلك في معنى الشرب ( فإن خبز العجين فأكل من خبزه لم يحد ) لأن النار أكلت أجزاء الخمر ( وإن ثرد في الخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقه حد ) لأن عين الخمر موجودة ( ولو خلطه ) أي المسكر ( بماء فاستهلك ) المسكر ( فيه ) أي الماء ( ثم شربه ) لم يحد لأنه باستهلاكه في الماء لم يسلب اسم الماء عنه ( أو داوى به ) أي المسكر ( جرحه لم يحد ) لأنه لم يتناوله شرابا ولا في معناه ( ولا يحد ذمي ولا مستأمن بشربه ) أي المسكر ( ولو رضي بحكمنا لأنه يعتقد حله ) وذلك شبهة يدرأ بها الحد .

                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                      الخدمات العلمية