الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 323 ] 847 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحب الناس كان إليه

5298 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : أخبرنا أبو عوانة ، قال : أخبرنا عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، قال : مررت فإذا علي والعباس - عليهما السلام - قاعدان ، فقالا : يا أسامة ، استأذن لنا . فقلت : يا رسول الله ، إن عليا والعباس بالباب يستأذنان ، قال : " أتدري ما جاء بهما ؟ " قلت : لا . قال : " لكني أدري ، ائذن لهما " . فدخلا ، فقال علي : يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك ؟ قال : " فاطمة ابنة محمد " . قال : إني لست أسأل عن النساء . قال : " من أنعم الله عليه ، وأنعمت عليه : أسامة بن زيد " ، قال علي : ثم من ؟ قال : " ثم أنت .

5299 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا أبو همام فهد بن سلام ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه [ ص: 324 ] ، عن أسامة بن زيد ، قال : أتى علي والعباس - عليهما السلام - وأنا في المسجد ، فقالا : استأذن لنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت ، فاستأذنت لهما ، فقال : " أتدري فيما جاءا ؟ " فقلت : لا والله . فقال : " ولكني أدري ، ائذن لهما " فدخلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله ، جئناك نسألك ، عن أحب أهل بيتك إليك ، قال : فقال : " فاطمة " . فقالا : لسنا نسألك عن النساء ، إنما نسألك عن الرجال ، قال : فقال : " أسامة " ، فقال العباس شبه المغضب : ثم من يا رسول الله ؟ قال : " ثم علي " ، فقال : جعلت عمك آخر القوم ! فقال : يا عباس ، إن عليا سبقك بالهجرة .

قال أبو جعفر : فكان في حديث إبراهيم بن مرزوق أن سؤال علي كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه ، وفي حديث ابن أبي داود سؤاله كان إياه عن أحب أهل بيته إليه ؟

فكان جوابه - عليه السلام - له في ذلك ما ذكر من جوابه له في ذلك إياه في هذين الحديثين ، وفيهما : أن أسامة كان أحب الرجال إليه .

فقال قائل : فقد رويتم عنه - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر أن أسامة كان من محبته ما يخالف هذا ، فذكر .

5300 - ما قد حدثنا يزيد بن سنان وفهد بن سليمان ، قالا [ ص: 325 ] : حدثنا القعنبي ، قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن دينار ، قال : قال ابن عمر : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمرته ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وايم الله ، إنه كان خليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده .

5301 - وما قد حدثنا نصر بن مرزوق ، قال : حدثنا علي بن معبد .

5302 - وما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، ثم اجتمعا ، فقال كل واحد منهما ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر هذا الحديث .

[ ص: 326 ] قال : ففي هذا الحديث من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن أسامة من أحب الناس إليه ، وفي الحديث الذي رويته قبله أنه أحب الرجال إليه ، فهذان حديثان متضادان .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل وعونه - : أنهما ليسا بمتضادين كما ظن ; لأن الحديث الأول إنما كان فيه سؤال علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه ، وعن أحب أهل بيته إليه ، وإخباره إياه جوابا له أنه فاطمة .

وفي الحديث الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - في أسامة : " إنه من أحب الناس إليه " والناس فيهم فاطمة ، فلما كانت فاطمة - عليها السلام - في محبته - عليه السلام - فوق أسامة من محبته ، كان موضع أسامة من محبته دون ذلك ، فكان من أحب الناس إليه إذا كان في الناس النساء والرجال ، وكان أحب الرجال إليه ، إذ ليست فاطمة من الرجال ، ولكنها من النساء ، وفي ذلك ما قد دل على أن لا تضاد في واحد من هذين الحديثين للآخر منهما .

قال : فقد رويتم من جوابه كان لعمرو بن العاص لما سأله عن أحب الناس إليه ، فذكر

[ ص: 327 ]

5303 - ما قد حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ ومحمد بن خزيمة ، قالا : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، قال : حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان ، قال : حدثني عمرو بن العاص : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل ، قال : فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ فقال : " عائشة ، فقلت : فمن الرجال ؟ قال : " فأبوها " ، قلت : ثم من ؟ قال : " عمر بن الخطاب " ، فعد رجالا .

قال : فبهذا الحديث جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرا بما أجابه به فيه ، [ ص: 328 ] وهو خلاف ما أجاب به عليا في حديث أسامة الذي قد ذكرته في هذا الباب .

وذكر في ذلك أيضا .

5304 - ما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق ، قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن قيس - يعني ابن أبي حازم - عن عمرو بن العاص ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك فأحبه ؟ قال : " عائشة . قلت : لست أسألك عن النساء ، إنما أسألك عن الرجال . فقال : " أبو بكر " ، أو قال : " أبوها " - رضي الله عنه - .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل وعونه - : أنه قد يحتمل أن يكون عمرو علم أن لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محبته إياهم ما ليس لغيرهم ، فكان سؤاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه ، يريد [ ص: 329 ] به الناس الذين هم سوى أهل بيته ، وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراده كان في ذلك ، فأجابه بالجواب الذي أجابه به مما ذكر في حديثه ، وكان حديث أسامة فيه ذكر سؤال علي عليه السلام إياه عما سأله عنه ، وعلي من أهل بيته ، فأجابه بما أجابه به مما ذكر جوابه إياه في ذلك الحديث .

فقال قائل : فقد ذكر في ذلك أسامة ، وليس من أهل بيته .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل وعونه - : أنه قد يحتمل أن يكون كان ذلك منه ، وأسامة حينئذ من أهل بيته ; لأن أباه قد كان يدعى ابنه ، فيقال زيد بن محمد .

5305 - كما حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر ، قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : والله إن كنا لنسمي زيد بن حارثة : زيد بن محمد ، حتى أنزل الله - عز وجل - : ادعوهم لآبائهم .

[ ص: 330 ] .

قال أبو جعفر : فكان أسامة حينئذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن ابن ، فكان بذلك من أهل بيته ، وبذلك المعنى تقدم في محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سواه ممن ذكر في حديثه ذلك من أهل بيته ، ثم نسخ الله - عز وجل - ذلك بما نسخه به مما قد تلونا ، وبقوله - عز وجل - : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، وأعاد زيدا وأسامة وأمثالهما إلى قوله - عز وجل - : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم .

وفي ذلك ما قد دل أن أسامة لما خرج عن البنوة التي كان فيها مما استحق به تقدم غيره من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محبة رسول الله أن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك قد عادت إلى من كان ذكره من محبته بمحبته بعده من أهل بيته .

وقال قائل آخر : قد رويتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى ما قد رويتموه عنه فيه مما قد ذكرتموه في هذا الباب ، وأنتم تروون عنه ما يخالف ذلك ، فذكر .

5306 - ما قد حدثنا مالك بن يحيى الهمداني أبو غسان ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال : أخبرني الجريري ، عن عبد الله بن [ ص: 331 ] شقيق ، قال : سألت عائشة أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إليه ؟ قالت : أبو بكر ، قلت : ثم من ؟ قالت : ثم عمر ، قلت : ثم من ؟ قالت : ثم أبو عبيدة بن الجراح ، قال : قلت : ثم من ؟ فسكتت .

قال : فالذي في هذا الحديث من هذا المعنى يخالف ما قد رويتموه قبله في حديث أسامة بن زيد في هذا الباب .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه لا خلاف في شيء مما قد رويناه في هذا الباب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الذي رويناه عنه في حديث أسامة على حقائق ما كان عنده - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ; لأنه كان مسؤولا عنه ومجيبا لسائله عما أجابه به في حديث أسامة ، والذي في حديث عائشة هو جوابها عما سألت عنه عما كان عليه ، وذلك على ما يقع في قلبها مما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وقد يكون على خلاف ذلك .

[ ص: 332 ] قال : فقد رويتم عنها جوابا منها عن مثل هذا السؤال ما يخالف هذا الجواب ، وذكر .

5307 - ما قد حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن آدم ، قال : حدثنا ابن أبي غنية ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن جميع - وهو ابن عمير - قال : دخلت مع أبي على عائشة وأنا غلام ، فذكر لها عليا ، فقالت : ما رأيت رجلا كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه ، ولا امرأة أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من امرأته .

5308 - وما قد حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي ، قال : حدثنا الهيثم بن جميل ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن جميع بن عمير ، قال : [ ص: 333 ] دخلت مع أمي على عائشة ، فقالت لها أمي : من كان أحب النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : فاطمة . قالت : فمن الرجال ؟ قالت : زوجها .

قال : فالذي عنها في هذا الحديث يخالف الذي عنها في الحديث الذي ذكرتموه عنها قبله في هذا الباب .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه لا خلاف في ذلك كما ظن ، ولكن عائشة سئلت في حديثها الأول عن أحب الناس كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الذي عندها أن أحدا لا يذهب عنه أن أحدا لا يتقدم أهل بيته في محبته ، كما لم يتقدم أحد سواهم إياهم في التبليغ عنه في الموسم سورة براءة ، وفي قوله : " إنه لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي " ، فأجابت بالجواب المذكور فيه عن أحب الناس كان إليه سوى أهل بيته ، وسئلت في حديثها الثاني عن علي ، وهو من أهل بيته ، فأجابت فيه بالجواب الذي أجابت به فيه ، وفي ذلك ما قد حقق ما حملنا عليه معنى حديثأسامة ، وحديث عمرو على ما ذكرنا من معنى كل واحد منهما الذي ذكرناه في هذا الباب .

وما حقق ما ذكرنا فيما رويناه عن عائشة من سائر أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سواهم من الناس في محبته .

5309 - ما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : حدثنا العيزار بن حريث ، قال : [ ص: 334 ] قال النعمان بن بشير : استأذن أبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت عائشة تقول : والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي ، مرتين أو ثلاثا ، فاستأذن أبو بكر - رضي الله عنه - فدخل ، فأهوى إليها ، وقال : يا بنت فلانة ، ألا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

فكان في هذا الحديث وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قالت عائشة من ذلك ، فلم ينكره عليها ، وخرج جميع معاني كل ما رويناه في هذا الباب خروجا لا تضاد فيه ، ولم يكن ما ذكرناه من تقديم علي عليه السلام في محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فيها ، بمانع أن يكون أبو بكر يتقدمه بالفضل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن كل واحد منهما له موضعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محبة ، ومن فضل رضوان الله عليهما ، وعلى سائر أصحابه سواهما ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية