الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون

[ ص: 417 ] لما تركوا الهدى وأعرضوا عنه ولازموا الضلالة وتكسبوها -مع أن الهدى ممكن لهم ميسر- كان ذلك كبيع وشراء، وقد تقدم إيعاب هذا المعنى. ولما كان العذاب تابعا للضلالة التي اشتروها، وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه أدخلا في تجوز الشراء.

وقوله تعالى: فما أصبرهم على النار قال جمهور المفسرين: "ما" تعجب، وهو في حيز المخاطبين، أي هم أهل أن تعجبوا منهم ومما يطول مكثهم في النار. وفي التنزيل قتل الإنسان ما أكفره و أسمع بهم وأبصر وبهذا المعنى صدر أبو علي ، وقال قتادة ، والحسن ، وابن جبير ، والربيع : أظهر التعجب من صبرهم على النار لما عملوا عمل من وطن نفسه عليها. وتقديره: ما أجرأهم على النار إذ يعملون عملا يودي إليها. وقيل: "ما" استفهام، معناه: أي شيء أصبرهم على النار؟ ذهب إلى ذلك معمر بن المثنى ، والأول أظهر.

ومعنى "أصبرهم" في اللغة: أمرهم بالصبر، ومعناه أيضا: جعلهم ذوي صبر، وكلا المعنيين متجه في الآية على القول بالاستفهام. وذهب المبرد في باب التعجب من [ ص: 418 ] "المقتضب" إلى أن هذه الآية تقرير واستفهام لا تعجب، وأن لفظة "أصبر" بمعنى اضطر وحبس، كما تقول: أصبرت زيدا على القتل، ومنه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم، قال ومثله قول الشاعر:


قلت لها أصبرها دائبا أمثال بسطام بن قيس قليل

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

الضبط عند المبرد بضم الهمزة وكسر الباء، ورد عليه في ذلك، فإنها لا يعرف في اللغة أصبر بمعنى صبر، وإنما البيت أصبرها بفتح الهمزة وضم الباء، ماضيه صبر، ومنه المصبورة، وإنما يرد قول أبي العباس على معنى: اجعلها ذات صبر.

وقوله تعالى: ذلك بأن الله الآية، المعنى: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك، بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به، والإشارة على هذا إلى وجوب النار لهم، ويحتمل أن يقدر: فعلنا ذلك، ويحتمل أن يقدر: وجب ذلك، ويكون "الكتاب" جملة القرآن على هذه التقديرات. وقيل: إن الإشارة بـ "الكتاب" إلى قوله تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم الآية، أي: وجبت لهم النار بما قد نزله الله في الكتاب من الخبر [ ص: 419 ] به، والإشارة بـ "ذلك" -على هذا- إلى اشترائهم الضلالة بالهدى، أي ذلك بما سبق لهم في علم الله وورود إخباره به. و "بالحق" معناه: بالواجب، ويحتمل أن يراد بالأخبار الحق أي الصادقة، و ( الذين اختلفوا في الكتاب ) ; قال السدي : هم اليهود والنصارى ، لأن هؤلاء في شق. وهؤلاء في شق، ويظهر أن الشقاق سميت به المشارة والمقاتلة ونحوه، لأن كل واحد يشق الوصل الذي بينه وبين مشاقه. وقيل: إن المراد بـ الذين اختلفوا كفار العرب ، لقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم: هو أساطير، وبعضهم: هو مفترى، إلى غير ذلك، وشقاق هذه الطوائف إنما هو مع الإسلام وأهله. و"بعيد" هنا معناه: من الحق والاستقامة.

وقوله تعالى: ليس البر الآية، قرأ أكثر السبعة برفع الراء، و البر" اسم ليس، قال أبو علي : ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

مذهب أبي علي أن "ليس" حرف، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل. وقرأ حمزة ، وعاصم في رواية حفص : " ليس البر " بنصب الراء، جعل "أن تولوا" بمنزلة المضمر، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر، والمضمر أولى أن يكون اسما يخبر عنه.

وفي مصحف أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود : " ليس البر بأن تولوا " ، وقال الأعمش : إن في مصحف عبد الله : "لا تحسبن البر".

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما: الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها، وقال قتادة ، والربيع : الخطاب لليهود والنصارى ، لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى بيت المقدس ، والنصارى إلى مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة، وفضلت كل فرقة توليها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، [ ص: 420 ] ولكن البر من آمن بالله . قرأ قوم: " ولكن البر " بشد النون ونصب البر. وقرأ الجمهور: "ولكن البر" والتقدير: ولكن البر بر من، وقيل: التقدير: ولكن ذو البر من، وقيل: البر بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من، والمصدر إذا نزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف كقولك: رجل عدل ورضى.

والإيمان: التصديق، أي صدق بالله تعالى، وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع.

وقوله تعالى: وآتى المال على حبه الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: هي الزكاة. و"آتى" معناه: أعطى، والضمير في "حبه عائد على المال، فالمصدر مضاف إلى المفعول، ويجيء قوله: " على حبه " اعتراضا بليغا أثناء القول. ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء، أي في وقت حاجة من الناس وفاقة، فإيتاء المال حبيب إليهم، ويحتمل أن يعود الضمير على اسم الله تعالى من قوله: من آمن بالله ، أي من تصدق محبته في الله تعالى وطاعته، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في " آتى " ، أي: على حبه المال، فالمصدر مضاف إلى الفاعل. والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم، والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله [ ص: 421 ] تعالى: وأحضرت الأنفس الشح . وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفا بالشح الذي هو البخل،.

و " ذوي القربى " يراد به قرابة النسب. واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ. وقال مجاهد ، وغيره: ابن السبيل المسافر لملازمته السبيل، وهذا كما يقال: ابن ماء; للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة ابن زنا أي: الملازم له، وقيل: لما كانت السبيل تبرزه، شبه ذلك بالولادة، فنسب إليها. وقال قتادة : ابن السبيل: الضيف.

" وفي الرقاب " يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات. " وأقام الصلاة " أتمها بشروطها. وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة، و " الموفون " عطف على "من" في قوله: " من آمن " ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون.

و " الصابرين " نصب على المدح، أو على إضمار فعل، وهذا مهيع في تكرار النعوت. وفي مصحف عبد الله بن مسعود : "والموفين" على المدح، أو على قطع النعوت. وقرأ يعقوب ، والأعمش ، والحسن : "والموفون" "والصابرون" . وقرأ الجحدري : "بعهودهم".

و " البأساء " الفقر والفاقة، "والضراء" المرض ومصائب البدن، " وحين البأس " وقت [ ص: 422 ] شدة القتال، هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع.

ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم. أي: هم عند الظن بهم، والرجاء فيهم، كما تقول: صدقني المال، وصدقني الربح، ومنه: عود صدق، وتحتمل اللفظة أيضا صدق الإخبار، ووصفهم الله تعالى بالتقى، والمعنى: هم الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح.

التالي السابق


الخدمات العلمية