الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 453 ] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير

                                                          * * *

                                                          إن أهل الكتاب جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر رسالته ، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا بالنبي المنتظر في حروبهم مع المشركين ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقد جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر القبلة ، وظنوا أنهم يستطيعون إغراءه عليه الصلاة والسلام بقبلتهم ، وهم يعلمون أن أمرها معروف في التوراة عندهم ، ولهذا سجل الله تعالى معرفتهم له - صلى الله عليه وسلم - معرفة مستيقن وهو علم جازم قاطع فقال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة ، فإن الإنسان لا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا ، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز ، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم ; فكذلك لا يجهلون الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام ، وهو ممن آمن من أهل الكتاب : أتعرف محمدا - صلى الله عليه وسلم - كما تعرف ابنك ؟ فقال عبد الله بن سلام : نعم وأكثر ، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه ، والضمير في قوله يعرفونه يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود ، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما .

                                                          [ ص: 454 ] ومعرفة أهل الكتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - معرفة لرسالته ، وما جاء به من حلال وحرام ، وللأرض التي يبعث منها ، ولقومه الأميين ، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون

                                                          وإن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - قسمين : قسم آمن واهتدى ، وقسم كابر وعاند فغوى ; ولذلك قال : وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه ، وكانوا يستفتحون به على المشركين ، وعبر سبحانه وتعالى عن النبي وشريعته ، وأظهر في موضع الإضمار ، فقال : ليكتمون الحق وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة ، فهم يكتمون الحق ، ومن يكتم الحق يكتم النور ، ولا بد من أن يظهر ، ثم أكد فساد نفوسهم ، فقال : وهم يعلمون أي والحال أنهم يعلمون أنه حق ، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد ، فهم يعلمون أن فعلهم إثم ويعلمون نتائج ذلك الإثم ، ولكنهم في غي دائم وضلال مستمر .

                                                          هذا شأن الذين يعلمون الحق ويكتمونه ، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به ، ويؤمن به ، وقوله تعالى : وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون قد يشير إلى أن هناك من لا يعلم ، كما قال تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم ; إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى الحق .

                                                          وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجاور اليهود ، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم ، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم ; ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين ، حتى لا تجرهم المودة إلى أهوائهم ، أو الشك فيما عندهم ; ولذا قال تعالى : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين

                                                          [ ص: 455 ] بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب ، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه ، بعد هذا بين أن ما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال : الحق من ربك أي الحق الجدير بالاتباع الذي لا ريب فيه هو الذي ينزل عليك من ربك وما غيره باطل لا يتبع ، فإن خالفت ما جاء من ربك ، فقد خالفته إلى الظلم ; لأن ما عداه سير وراء هوى التعصب المنحرف والشرك ، وقوله : من ربك إشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي رباك وعلمك وهذبك وهداك ، وهو الذي يعلم ما ينفع وما يضر وما فيه الهداية وما فيه الضلال .

                                                          وإذا كان الحق لا يكون إلا ما هو من جانب الله وأن ما عند غيره هو هوى النفوس ، ووسوسة الشياطين فلا تكونن من الممترين الفاء لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها ، والمعنى إذا كان ما نزل عليك هو الحق من منزل الحق الذي لا ريب فيه فلا تكونن من الممترين . والامتراء التردد بين الشك واليقين ، بحيث يعتريه دور يحس فيه باليقين ودور يحس بالشك الذي يناقض اليقين ، وقد يطلق على مجرد الشك لتردده بين اليقين والشك ، بل إن هذا التردد هو الشك في ذاته ، فمعنى الشك موجود ، واحتمال الشك ولو من وجه ينافي العلم الجازم .

                                                          والنهي عن الامتراء نهي عن أن تدخل أسبابه النفس ، وأمر باليقين الدائم ويقول بعض المفسرين : إنه أمر بالاحتياط والتوقي ، ذلك أن الشك يدخل النفوس بسريان ما عند أهل الأهواء إلى غيرهم ، يبتدئ باستحسان ما عندهم ، وأول الشر استحسانه ، ثم يدخل الشر إلى النفس شيئا فشيئا حتى يحدث الشك فيما عنده .

                                                          وقال الله تعالى : فلا تكونن من الممترين أي لا تدخل في صفوف أهل الشك ، وفي ذلك إيذان بأنه لو شك فيما عنده لدخل في صف الذين يمارون في الحق ويشككون فيه .

                                                          وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أمر لأمته ، فإن الشك أو الامتراء غير متصور منه ، وغير متصور أن تكون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أسباب الامتراء أو أن يدخل في صفوف المرتابين في [ ص: 456 ] أمر ربهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون ، إنما هو أمر لأمته ، بأن يحتاطوا لدينهم الحق ، فيزودوا أنفسهم دائما بالعلم الذي يزيدهم إيمانا ، وبالقيام بالفرائض ، واتباع السنن التي تزيدهم قوة في الاعتقاد ، وتبعدهم عن مواطن الشبهات فيزدادوا يقينا ، ولا يبعد الشك ويحدث الاطمئنان إلا العمل الصالح وذكر الله تعالى دائما ألا بذكر الله تطمئن القلوب

                                                          وإن الله تعالى ينبهنا إلى أننا يجب علينا أن نتجه إلى قبلتنا وشرعنا ، وليس علينا أن نغير ما عند غيرنا إن اتبعوا أهواءهم بعد أن نبين لهم الحق وندلهم عليه بالآيات البينات ، فإن أعرضوا فلهم أعمالهم ، ولنا أعمالنا ; ولذا قال تعالى : ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات

                                                          الوجهة قال كثير من المفسرين إنها القبلة ، والتنكير في " لكل " دال على محذوف ، والمعنى : لكل ملة أو جماعة قبلة يتجهون إليها ، وتبين الحق في هذه الجهات ، ببينة الله وقبلته المختارة من بينها ، وإن العبرة بعد الاتجاه إلى القبلة الحق أن تستبقوا الخيرات ، أي تسارعوا متسابقين إليها ، غير مدخرين جهدا في الوصول إلى الخير من عمل صالح ، وصلاة وصوم وزكاة ، وتعاون على البر والتقوى ، وهذا كقوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر

                                                          هذا على تفسير الوجهة بالقبلة ، ويصح أن تفسر الوجهة بالملة أو الشريعة أو الحق كقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وكقوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم

                                                          وإن المعنى على هذا : إن لكل أمة اتجاها في اعتقاداتهم ، وهم سائرون على ملتهم التي اختاروها ، وعقيدتهم التي أرادوها ولهم طريقهم ومنهاجهم ، ولا نجادلهم ، ولكن أمرنا بأن نستبق بالمسارعة في السبق إلى الخيرات ، أي كل ما هو فيه [ ص: 457 ] خير في ذاته ، وفيه نفع للناس والأنفس ، وما فيه تطهير القلوب ، والاتجاه بها إلى الله تعالى رب الوجود ومن في الوجود .

                                                          وإنه بعد الاستباق إلى الخير ، والاختلاف في الملة سيكون الحساب ، والثواب والعقاب ، وبيان الحق والباطل ; ولذا قال : أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا وأينما اسم شرط دال على المكان ، وجواب الشرط يأت بكم الله جميعا .

                                                          والمعنى أنه في أي مكان كنتم لا بد أن يأتي الله تعالى بكم وتجتمعوا يوم القيامة ، فيعرف أهل الحق من أهل الضلال ، ويحاسب كل على ما قدم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

                                                          وإن هذا النص السامي فيه تبشير وإنذار ; فيه تبشير لمن استبقوا إلى الخير ، وكان دينهم الحق ، وإنذار لمن اعتقدوا الباطل ، ولجوا فيه وعاندوا أهل الحق وكابروا .

                                                          وقوله تعالى : يأت بكم الله جميعا فيه إشارة إلى أنها حياة لا يجيئون إليها مختارين ، بل يأتي بهم الله تعالى طائعين أو كارهين ، ومن يأتي بهم هو الله تعالى القاهر فوق عباده ، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته : إن الله على كل شيء قدير وقد أكد قدرته بهذه الجملة السامية المؤكدة بإن والجملة الاسمية ، وتصديرها بلفظ الجلالة الدال على القدرة التي ليست فوقها قدرة ، وهو سبحانه وتعالى الغالب على كل هذا الوجود ، كل شيء في قدرته وفي سلطانه ، وهو العزيز العليم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية