الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              78 [ ص: 185 ] (باب الإيمان يمان والحكمة يمانية)

                                                                                                                              وقال النووي: (باب تفاضل أهل الإيمان ورجحان أهل اليمن فيه)

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 31 ج2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: جاء أهل اليمن ، هم أرق أفئدة، وأضعف قلوبا، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية، السكينة في أهل اليمن، والفخر والخيلاء في الفدادين، أهل الوبر قبل مطلع الشمس ] .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة» رضي الله عنه «: قال: سمعت النبي» صلى الله عليه وسلم يقول: «جاء أهل اليمن ) .

                                                                                                                              قال النووي ناقلا عن ابن الصلاح: المراد بذلك، الموجودون منهم حينئذ، لا كل أهل اليمن في كل زمان. فإن اللفظ لا يقتضيه؛ هذا هو الحق في ذلك، ونشكر الله تعالى على هدايتنا له والله أعلم انتهى.

                                                                                                                              قلت: عدم اقتضاء اللفظ له، ليس يختص بأهل اليمن، بل هذا الحكم يجري في كل حديث، جاء على منوال هذا الحديث. ولكن الأخبار الصحيحة، الواردة في مناقب اليمن وأهله، وكذا الواردة في مناقب [ ص: 186 ] غيرهم، يستأنس بها لفضائل أهلها إلى الآن، فإن الأصول تسري في الفروع، ثم إن التجربة، شاهد بأن ما يوجد من الإيمان والحكمة والفقه في اليمن، في كل زمان إلى زماننا هذا، لم يوجد مثله في سائر الأقطار، كما تأتي الإشارة إلى ذلك، إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                              وهذا الوجود، يصحح مفهوم الحديث. والله يختص برحمته من يشاء؛ فلا وجه لقصره على الموجودين، ورحمة الله أوسع من ذلك.

                                                                                                                              (هم أرق أفئدة ) المشهور: أن «الفؤاد» هو القلب.

                                                                                                                              (وأضعف قلوبا ) ، وعلى هذا يكون كرر لفظ «القلب» بلفظين؛ وهو أولى من تكريره بلفظ واحد.

                                                                                                                              وقيل: «الفؤاد» غير القلب؛ وهو عين القلب. وقيل: «باطن القلب» . وقيل: «غشاء القلب» . ووصفها بالرقة والضعف، وباللين؛ كما في خبر آخر، أنها ذات خشية واستكانة، سريعة الاستجابة والتأثر، بقوارع التذكير، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين.

                                                                                                                              (الإيمان يمان ) وكذا «يمانية» ، هو بتخفيف الياء عند جماهير أهل العربية، لأن الألف المزيدة فيه، عوض من ياء النسب المشددة؛ فلا يجمع بينهما.

                                                                                                                              وقال ابن السيد في كتابه «الاقتضاب» : حكى المبرد وغيره أن التشديد لغة. قال الشيخ: وهذا غريب.

                                                                                                                              وقد حكى الجوهري وصاحب «المطالع» وغيرهما من العلماء عن سيبويه:

                                                                                                                              [ ص: 187 ] أنه حكي عن بعض العرب: أنهم يقولون «اليماني» ، بالياء المشددة، وأنشد لأمية بن خلف:


                                                                                                                              يمانيا يظل يشب كيرا وينفخ دائما لهب الشواظ

                                                                                                                              والله أعلم. هكذا في شرح النووي لمسلم.

                                                                                                                              (والحكمة يمانية ) وزاد في رواية أخرى عنه عند مسلم «والفقه يمان» وله طريقان.

                                                                                                                              وفي أخرى «أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى اليمن، فقال «ألا إن الإيمان ههنا» .

                                                                                                                              وهذه الإشارة المباركة تشمل «اليمن» ، كله عموما. وليس فيها ما يخص الموجودين.

                                                                                                                              وفي رواية «الإيمان في أهل الحجاز» ، ومن هنا اختلف أهل العلم، في مواضع من هذا الحديث؛ وقد جمعها عياض، ونقحها مختصرة بعده ابن الصلاح.

                                                                                                                              وحاصله: أن نسبة الإيمان إلى أهل اليمن، قد صرفوه عن ظاهره، من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة؛ ثم من المدينة؛ حرسها الله تعالى.

                                                                                                                              فحكى أبو عبيد «إمام الغرب» ، ثم من بعده، في ذلك أقوالا:

                                                                                                                              «أحدها» ، أنه أراد بذلك «مكة» . فإنه يقال: إن مكة من «تهامة» . وتهامة من أرض اليمن.

                                                                                                                              [ ص: 188 ] «والثاني» أن المراد «مكة والمدينة» ، فإنه يروى في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو بتبوك، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن؛ فأشار إلى ناحية «اليمن» ، وهو يريد «مكة والمدينة» ، فقال: «الإيمان يمان» ونسبهما إلى اليمن، لكونهما حينئذ من ناحية اليمن؛ كما قالوا «الركن اليماني» ، وهو بمكة. لكونه إلى ناحية اليمن.

                                                                                                                              «والثالث» ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها «عند أبي عبيد» : أن المراد بذلك «الأنصار» ، لأنهم يمانيون في الأصل؛ فنسب الإيمان إليهم، لكونهم أنصاره.

                                                                                                                              وهذه الأجوبة كلها ضعيفة مبنية على شفا جرف هار.

                                                                                                                              ولذلك قال ابن الصلاح «رح» : لو جمع أبو عبيد، ومن سلك سبيله، طرق الحديث بألفاظه، كما جمعها مسلم وغيره، وتأملوها، لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولما تركوا الظاهر، ولقضوا بأن المراد «اليمن وأهل اليمن» على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك؛ إذ من ألفاظه «أتاكم أهل اليمن» والأنصار من جملة المخاطبين بذلك. فهم إذن غيرهم.

                                                                                                                              وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «جاء أهل اليمن» ، وإنما جاء حينئذ غير الأنصار.

                                                                                                                              ثم إنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بما يقضي بكمال إيمانهم، ورتب عليه «الإيمان يمان» فكان ذلك إشارة للإيمان، إلى من أتاه من أهل اليمن، لا إلى مكة، ولا إلى المدينة.

                                                                                                                              ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة.

                                                                                                                              [ ص: 189 ] لأن من اتصف بشيء وقوي قيامه به، وتأكد اطلاعه منه، ينسب ذلك الشيء إليه، إشعارا بتمييزه به، وكمال حاله فيه.

                                                                                                                              وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان، وحال الوافدين منه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أعقاب موته، «كأويس القرني» ، «وأبي مسلم الخولاني» رضي الله عنهما، وشبههما؛ ممن سلم قلبه، وقوي إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارا بكمال إيمانهم، من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم؛ فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم:

                                                                                                                              «الإيمان في أهل الحجاز» .

                                                                                                                              قال: «والحكمة» فيها أقوال كثيرة مضطربة؛ قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات «الحكمة» .

                                                                                                                              وقد «صفا» لنا منها: أن «الحكمة» عبارة عن العلم المتصف بالأحكام؛ المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصد عن اتباع الهوى، والباطل.

                                                                                                                              «والحكيم» من له ذلك. وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، فهي «حكمة وحكم» .

                                                                                                                              ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة» ، وفي بعض الروايات «حكما» ، انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 190 ] وأقول «الحكمة» تطلق على ما ذكر ههنا، وتطلق أيضا على السنة المطهرة، التي هي تلو كلام الله تعالى.

                                                                                                                              وقد فسر جمع جم من السلف قوله تعالى:

                                                                                                                              ويعلمهم الكتاب والحكمة .

                                                                                                                              وقوله سبحانه:

                                                                                                                              ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة .

                                                                                                                              فالذي يصفو في معنى الحديث ها هنا، هو: أن المراد بالحكمة: السنة النبوية، التي اشتملت عليها كتب الحديث الشريف ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:

                                                                                                                              «إن من الشعر لحكمة» أن الشعر قد يحتوي على معنى موافق للسنة، فيكون حسنا. وإن احتوى على غير ذلك، مما لا يوافقها يكون، قبيحا.

                                                                                                                              وما ذكره ابن الصلاح وغيره في معناها، وقالوا: إنه صفا لنا، فهو موافق لحدها من الفلاسفة، ويقر به في المفهوم، لأنه تعريف اصطلاحي؛ لا حد شرعي.

                                                                                                                              وأيضا، يدل على أن المراد بالحكمة «السنة» المطهرة لا غير مقارنتها بالفقه. في رواية أخرى.

                                                                                                                              وهذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ وفيه شهادة من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن وأهله، بكون الإيمان والسنة والفقه إيمانهم وسنتهم وفقههم.

                                                                                                                              [ ص: 191 ] وهذه مزية ليس وراءها غاية. وكم من آية وحديث وردت في شأنهم ووصف إيمانهم، ذكرها الشوكاني في بعض مؤلفاته، وذكرتها في «سلسلة العسجد» وغيرها. وحررت ذكر اليمن وبلدة «صنعا» في عدة مؤلفات.

                                                                                                                              منها «حظيرة القدس» ، «ورياض المرتاض» وذكرت تراجم بعض أهل اليمن، من العلماء العاملين بالكتاب والسنة، في كتابي «إتحاف النبلاء» ، وكتابي «التاج المكلل» ، والحمد لله على ما من به علينا، من انتسابنا في علم القرآن والسنة والفقه إليهم؛ فإنهم هم (السكينة ) أي: الطمأنينة، والسكون، (في أهل الغنم ) .

                                                                                                                              (والفخر، والخيلاء ) ، «الفخر» ، هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما. «والخيلاء» الكبر، واحتقار الناس.

                                                                                                                              (في الفدادين ) . زعم أبو عمرو الشيباني أنه بتخفيف الدال، وهو جمع «فداد» بتشديد الدال، وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها. حكاه عنه أبو عبيدة، وأنكره عليه.

                                                                                                                              وعلى هذا: المراد بذلك أصحابها، فحذف المضاف.

                                                                                                                              والصواب في «الفدادين» بتشديد الدال. جمع «فداد» بدالين «أولاهما مشددة» ، وهذا قول أهل الحديث، والأصمعي، وجمهور أهل اللغة. وهو من «الفديد» وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم، وخيلهم وحروثهم؛ ونحو ذلك.

                                                                                                                              [ ص: 192 ] وقال أبو عبيدة: هم المكثرون من الإبل، الذين يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف «أهل الوبر» .

                                                                                                                              وفي رواية «إن القسوة، وغلظ القلوب، في الفدادين؛ عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر» .

                                                                                                                              «والوبر» وإن كان من الإبل دون الخيل؛ فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر.

                                                                                                                              «قبل مطلع الشمس» ، وفي رواية قال - «رأس الكفر نحو المشرق. الحديث» ، وفي الأخرى «والكفر قبل المشرق» .

                                                                                                                              والمراد بذلك اختصاص «المشرق» بمزيد من تسلط الشيطان، ومن الكفر، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك. ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة، ومثار الكفرة «الترك» الغاشمة العاتية، الشديدة البأس. قاله النووي.




                                                                                                                              الخدمات العلمية