الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتبعهم من لم يكن بينهما وبين الملوك [ ص: 176 ] أمر ، وهدى بهما من كان بين ظهرانيه ، فقال : وإسماعيل واليسع هذا إن كان اليسع هو ابن أخطوب بن العجوز خليفة إلياس ، كما ذكر البغوي في سورة الصافات أن الله تعالى أرسل إلى إلياس - وهو من سبط لاوي من نسل هارون - عليه السلام - فرسا من نار فركبه فرفعه الله وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وكساه الريش ، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سماويا ، وسلط الله على آجب - يعني : الملك الذي سلط على إلياس - عدوا فقتله ونبأ الله اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل ، وأيده فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وإن كان اليسع هو يوشع بن نون - كما قال زيد بن أسلم - فالمناسبة بينه وبين إسماعيل - عليهما السلام - أن كلا منهما كان صادق الوعد ؛ لأن يوشع أحد النقيبين اللذين وفيا لموسى - عليه السلام - حين بعثهم يجسون بلاد بيت المقدس كما أشير إليه في قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقوله قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما وأيضا فكل منهما كان سبب عمارة بلد الله الأعظم بالتوحيد ، فإسماعيل سبب عمارة مكة المشرفة ، ويوشع سبب عمارة البلدة المقدسة - كما سيأتي [ ص: 177 ] في سورة يونس إن شاء الله تعالى - .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان إسماعيل واليسع ممن هدى الله بهما قومهما من غير عذاب ، أتبعهما من هدى الله قومه بالعذاب وأنجاهم بعد إتيان مخايله فقال : ويونس أي : هديناه. ولما انقضت ذرية إبراهيم - عليه السلام - ختم بابن أخيه الذي ضل قومه فهلكوا بغتة ، فبين قصتي هذين الآخرين طباق من جهة الهلاك والنجاة ، ووفاق من حيث إن كلا منهما أرسل إلى غير قومه فقال : ولوطا ثم وصفهم بما يعم من قبلهم ، فقال : وكلا أي : ممن ذكرنا فضلنا أي : بما لنا من العظمة بتمام العلم وشمول القدرة على العالمين فكل هؤلاء الأنبياء ممن هداه الله بهداه وجاهد في الله حق جهاده ، وبدأهم تعالى بإبراهيم - عليه السلام - وختمهم بابن أخيه لوط - عليه السلام - على هذه المناسبة الحسنة; وقيل : إن الله تعالى أهلك قوم إبراهيم - نمرود وجنوده - بعد هجرته ، فإن صح ذلك تمت المناسبة في هلاك كل من قومه وقوم ابن أخيه لوط بعد خروج نبيهم عنهم ، فيكون بينهما وفاق كما كان بين قصته وقصة يونس - عليه السلام - طباق .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن لطائف ترتيبهم هكذا أيضا أن إسماعيل - عليه السلام - يوازي نوحا - عليه السلام - فإنه رابع في العد لهذا العقد إذا عددته من آخره ، كما أن نوحا - عليه السلام - رابعه إذا عددته من أوله ، والمناسبة بينهما أن [ ص: 178 ] نوحا - عليه السلام - نشر الله منه الآدميين حتى كان منهم إبراهيم - عليه السلام - الذي جعله الله أبا للأنبياء والمرسلين ، وإسماعيل - عليه السلام - نشر الله منه العرب الذين هم خلاصة الخلق حتى كان منهم محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، فهذا كان بداية وهذا كان نهاية ، وأن المذكورين قبل ذرية إبراهيم - عليه السلام - وبعدها - وهما نوح ولوط عليهما السلام - أهلك الله قوم كل منهما عامة ، وغيب هؤلاء في جامد الأرض كما أغرق أولئك في مانع الماء ، وأشقى بكل منهما زوجته ، بيانا لأن الرسل كما يكونون لناس رحمة يكونون على قوم نقمة ، وأنه لا نجاة بهم ولا انتفاع إلا بحسن الاتباع ، وأن ابن عمران اشترك مع إبراهيم - عليهم السلام - في أن كلا من ملكي زمانهم أمر بقتل الغلمان خوفا ممن يغير دينه ويسلبه ملكه ، وكما أن الله تعالى أنجى إبراهيم - عليه السلام - وابن أخيه لوطا - عليه السلام - من ملك زمانهما المدعي للإلهية فكذلك أنجى موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - من ملك زمانهما المدعي للآلهة ، وأنجى ذرية إبراهيم بهما ، فإذا جعلت إبراهيم وابن أخيه لوطا - لكونه تابعا له - واحدا ، وموسى وأخاه هارون واحدا لمثل ذلك ، ونظمت أسماء جميع هذه [ ص: 179 ] الأنبياء في سلك النقي : لوط مع إبراهيم كموسى مع هارون ، وكان الأربعة واسطة عقدة ، فبين إبراهيم وموسى حينئذ سبعة كما أن بين هارون ولوط سبعة ، وإذا ضممت إليهم المقصود بالذات المخاطب بهذه الآيات المأمور بقوله فبهداهم اقتده كان منزله في السلك بين ابن عمه لوط وأبيه إبراهيم ، ويكون من بين يديه تسعة ، ومن خلفه تسعة ، فمن إبراهيم إلى موسى تسعة ، ومن لوط إلى هارون كذلك ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسط العقد ومكمل العقد ، فإنه العاشر من كل جانب ، فبه تكمل الهدى وإيجاب الردى ، وذلك طبق قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - :

                                                                                                                                                                                                                                      ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) وللبخاري نحوه عن جابر ، هذا مع اقترانه بأقرب أولي العزم رتبة ونسبا صاحب القصة إبراهيم - عليه السلام - وإن جعلت موسى وهارون عليهما السلام كشيء واحد كانا واسطة من الجانب الآخر ، فإن عددت من جهة إبراهيم - عليه السلام - كان بينه وبينهما ثمانية ، وإن عددت [ ص: 180 ] من جهة لوط - عليه السلام - كان كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية