الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 113 ] قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

تذييل جعل فذلكة للكلام السابق المشتمل على بيان ضلالهم في قتل أولادهم ، وتحجير بعض الحلال على بعض من أحل له .

وتحقيق الفعل بـ ( قد ) للتنبيه على أن خسرانهم أمر ثابت ، فيفيد التحقيق التعجيب منهم كيف عموا عما هم فيه من خسرانهم ، وعن سعيد بن جبير قال ابن عباس : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم إلى وما كانوا مهتدين أي : من قوله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا وجعلها فوق الثلاثين ومائة تقريبا ، وهي في العد السادسة والثلاثون ومائة .

ووصف فعلهم بالخسران ؛ لأن حقيقة الخسران نقصان مال التاجر ، والتاجر قاصد الربح وهو الزيادة ، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عمل لأجله ، ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الذين يعملون طلبا لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه ؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله ؛ ذلك أن هؤلاء الذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلص من أضرار في الدنيا محتمل لحاقها بهم من جراء بناتهم ، فوقعوا في أضرار محققة في الدنيا وفي الآخرة ، فإن النسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهماتهم ، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتز ، وعلى العالم كله بكثرة من يعمره وبما ينتفع به الناس من مواهب النسل وصنائعه ، ونعمة على النسل نفسه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها .

ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام [ ص: 114 ] التناسل ، حفظا للنوع ، وتعميرا للعالم ، وإظهارا لما في الإنسان من مواهب تنفعه وتنفع قومه ، على ما في عملهم من اعتداء على حق البنت الذي جعله الله لها وهو حق الحياة إلى انقضاء الأجل المقدر لها ، وهو حق فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بين لرجاء صلاح لغير المظلوم ، ولا يضر بأحد لينتفع غيره ، فلما قتل بعض العرب بناتهم بالوأد كانوا قد عطلوا مصالح عظيمة محققة ، وارتكبوا به أضرارا حاصلة ، من حيث أرادوا التخلص من أضرار طفيفة غير محققة الوقوع ، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتاجر الذي أراد الربح فباء بضياع أصل ماله ، ولأجل ذلك سمى الله فعلهم سفها ؛ لأن السفه هو خفة العقل واضطرابه ، وفعلهم ذلك سفه محض ؛ أي : سفه أعظم من إضاعة مصالح جمة ، وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة ، لأجل التخلص من أضرار طفيفة قد تحصل وقد لا تحصل ، وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في الخبر فإن خسرانهم مسبب عن قتل أولادهم .

وقوله : ( سفها ) منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل ، أنه قتل سفه لا رأي لصاحبه ، بخلاف قتل العدو وقتل القاتل ، ويجوز أن ينتصب على الحال من الذين قتلوا وصفوا بالمصدر ؛ لأنهم سفهاء بالغون أقصى السفه .

والباء في قوله : بغير علم للملابسة ، وهي في موضع الحال إما من ( سفها ) فتكون حالا مؤكدة ، إذ السفه لا يكون إلا بغير علم ، وإما من فاعل ( قتلوا ) فإنهم لما فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدروا حصوله لهم من الضر ، إذ قد يحصل خلاف ما قدروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة .

والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم بعد الإخبار عنه بأنه [ ص: 115 ] سفه ، التنبيه على أنهم فعلوا ما في العالم من المفاسد ، وينظمون حياتهم أحسن نظام ، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم ، وجاهلون بأنهم يجهلون الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

وتقدم الكلام على الوأد آنفا ، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق .

وقرأ الجمهور : قتلوا أولادهم بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء ؛ لأنه قتل بشدة ، وليست قراءة الجمهور مفيتة هذا المعنى ؛ لأن تسليط فعل القتل على الأولاد يفيد أنه قتل فظيع .

وقوله : وحرموا ما رزقهم الله نعى عليهم خسرانهم في أن حرموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله ، فحرموا الانتفاع به ، وحرموا الناس الانتفاع به ، وهذا شامل لجميع المشركين ، بخلاف الذين قتلوا أولادهم ، والموصول الذي يراد به الجماعة يصح في العطف على صلته أن تكون الجمل المتعاطفة مع الصلة موزعة على طوائف تلك الجماعة كقوله تعالى : إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم .

وانتصب ( افتراء ) على المفعول المطلق لـ ( حرموا ) لبيان نوع التحريم بأنهم نسبوه لله كذبا .

وجملة ( قد ضلوا ) استئناف ابتدائي لزيادة النداء على تحقق ضلالهم .

والضلال : خطأ الطريق الموصل إلى المقصود ، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية ، والتقرب إلى الله وإلى شركائهم ، فوقعوا في المفاسد العظيمة ، وأبعدهم الله بذنوبهم ، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقا آخر .

[ ص: 116 ] وعطف وما كانوا مهتدين على قد ضلوا لقصد التأكيد لمضمون جملة ضلوا ؛ لأن مضمون هذه الجملة ينفي ضد الجملة الأولى فتئول إلى تقرير معناها .

والعرب إذا أكدوا بمثل هذا قد يأتون به غير معطوف نظرا لمآل مفاد الجملتين ، وأنهما باعتباره بمعنى واحد ، وذلك حق التأكيد كما في قوله تعالى : أموات غير أحياء ، وقوله : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ، وقول الأعشى :


إما ترينا حفاة لا نعال لنا



وقد يأتون به بالعطف وهو عطف صوري لأنه اعتداد بأن مفهوم الجملتين مختلف ، ولا اعتداد بمآلها كما في قوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى ، وقوله : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، وقول المتنبي :

والبين جار على ضعفي وما عدلا

وكذلك جاء في هذه الآية ليفيد ، بالعطف ، أنهما خبران عن مساويهم .

و ( كان ) هنا في حكم الزائدة ؛ لأنها زائدة معنى ، وإن كانت عاملة ، والمراد وما هم بمهتدين ، فزيادة ( كان ) هنا لتحقيق النفي مثل موقعها مع لام الجحود ، وليس المراد أنهم ما كانوا مهتدين قبل أن يقتلوا أولادهم ويحرموا ما رزقهم الله ؛ لأن هذا لا يتعلق به غرض بليغ .

التالي السابق


الخدمات العلمية