الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 260 ] مسألة فيمن يقول: إن علي بن أبي طالب أولى بالأمر من أبي بكر وعمر [ ص: 262 ] بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله

مسألة سئل عنها شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية -رضي الله عنه- فيمن يقول: إن علي بن أبي طالب أولى بالأمر من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وأنهما لم يلياه إلا مغالبة. هل هو مصيب أم مخطئ؟ وماذا يجب على من يعتقد ذلك؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين، بل هذا القائل مخطئ مبتدع ضال، مخالف لكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، بل هو مفتر افتراء ظاهرا، يعرف كذبه فيه علما ضروريا بالنقل المتواتر، وبغير ذلك من الأدلة.

بل إذا قال مثل هذا القول في عثمان وعلي كان مفتريا ضالا زاريا على المهاجرين والأنصار، بل على أمة محمد مطلقا.

قال أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، وغيرهم: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. فكيف من [ ص: 264 ] قدمه على أبي بكر وعمر؟ فكيف بمن طعن في خلافة عثمان؟ فكيف بمن طعن في خلافة أبي بكر وعمر؟!

ولم يكن أحد من سلف الأمة -لا من شيعة علي ولا غيرهم- يطعنون في خلافة أحد من الثلاثة، لكن أنكر بعضهم على عثمان بعض الأشياء في آخر خلافته; فأما السنة الأولى من خلافته فلم ينكروا عليه شيئا.

ولم يكن بين الشيعة الأولى نزاع في تقديم أبي بكر وعمر على علي وعثمان، وإنما كان يتنازع بعضهم في عثمان وعلي.

وقد روي [من] أكثر من ثمانين وجها عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: « خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر». [ ص: 265 ]

وقد رواه البخاري في « صحيحه» من حديث محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر.

وهذا روته همدان -وهم من شيعة علي- عن ابنه محمد بن الحنفية: أن أباه قاله له. فامتنع أن يكون قال ذلك تقية لابنه، مع أن الله قد نزهه عن الكذب والنفاق الذي تسميه الرافضة: تقية!

بل قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. ولا يجلد ظهر المسلم إذا قال الصدق، وأسماه مفتريا.

وظهور فضيلة أبي بكر وعمر على غيرهما في العلم والدين، والشجاعة والكرم أظهر من أن تحتاج إلى بسط عند من كان له أدنى خبرة بأحوال القوم. ولهذا اتفق العلماء المعتبرون على أن أبا بكر أعلم الأمة وأدينها وأشجعها وأكرمها، لكن وقعت لبعضهم شبهة في عثمان وعلي لتقاربهما.

وقد أجمع السلف على تقديم عثمان. فإنه قد ثبت في « صحيح البخاري» وغيره خبر مقتل عمر، وجعله الأمر شورى في ستة [ ص: 266 ] وتقديمهم عثمان. وهذا مما تواتر عند الخاصة والعامة. وقد رواه البخاري وغيره مفصلا.

وملخصه: أن عمر جعل الخلافة شورى في ستة; عثمان وعلي، وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، ولم يدخل فيها ابنه عبد الله ولا ابن عمه سعيد بن زيد، مع أنه من العشرة المشهود لهم بالجنة. فلما دفن عمر اجتمع الستة في المسجد، فقال طلحة: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان. وقال الزبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي. وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف، يخرج أحدنا ويولي أحد الرجلين، وعليه عهد الله وميثاقه أن يولي أفضلهما، فسكت عثمان وعلي، فقالعبد الرحمن: أنا أخرج وعلي عهد الله وميثاقه أن أولي أفضلهما، فرضيا بذلك وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليهما يشاور الأمة. وكان بالمدينة خيار الأمة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأمصار.

قال المسور بن مخرمة: طرقني عبد الرحمن بعد ثلاث فقال: وإنك لنائم! إن لي ثلاثا ما اغتمضت بنوم، ثم قال: ادع لي عليا، فدعوته فناجاه طويلا، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه طويلا، ثم لما صلوا الفجر بعد ثلاث حلف صهيب قال عبد الرحمن: إني قد شاورت الناس حتى الأعراب والعذارى في خدورهن، فرأيتهم لا يعدلون [ ص: 267 ] بعثمان، فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر الصحابة بيعة طوع واختيار، بعد مشاورة واتفاق، لا بسوط ولا نوط ولا بذل عطاء.

فإن لم يكن عثمان هو الأولى بالخلافة وقدموا غيره، كانوا إما جاهلين بحق الأفضل، وإما ظالمين بتولية من غيره أولى بالخلافة، كيف وفي الحديث الذي رواه الحاكم في « صحيحه»: « أنه من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين».

وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».

وهذه القصة كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ببضع عشرة سنة، فذلك القرن الأول الذي هو أفضل قرون هذه الأمة، وقدموا عثمان، فإن كانوا مخطئين أو ظالمين كان خيار هذه الأمة مخطئين في الإمامة أو ظالمين فيها.

والرافضة تقول: إنما قدموا غيره لأحقاد جاهلية وأضغان كانت في القلوب عليه لأجل جهاده في سبيل الله. فإن كانوا كذلك فهم من [ ص: 268 ] [شر] الخلق، وإذا كان خير هذه الأمة كذلك لم تكن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بل تكون هذه الأمة من شرار الأمم! وهذا حقيقة قول الرافضة، وهذا خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

التالي السابق


الخدمات العلمية