الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر ذلك ، أتبعه منفعة أخرى تعمهما مع غيرهما مبينا ما أذن [ ص: 202 ] فيه من علم النجوم ومنافعها ، فقال : وهو أي : لا غيره الذي جعل ولما كانت العناية بنا أعظم ، قدم قوله : لكم النجوم أي : كلها سائرها وثابتها وإن كان علمكم يقصر عنها كلها كما يقصر عن الرسوخ والبلوغ في علم السير للسيارة منه لتهتدوا أي : لتكلفوا أنفسكم علم الهداية بها لتعلموا القبلة وأوقات الصلوات والصيام وغير ذلك من منافعكم دنيا ودينا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت الأرض والماء ليس لهما من نفسهما إلا الظلمة ، وانضمت إلى ذلك ظلمة الليل ، قال : في ظلمات البر أي : الذي لا علم فيه ، وإن كانت له أعلام فإنها قد تخفى والبحر فإنه لا علم به ، والإضافة إليهما للملابسة أو تشبيه الملبس من الطرق وغيرها بالظلمة; روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في جزء جمعه في النجوم من طريق أحمد بن سهل الأشناني عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : ( تعلموا من النجوم ما تهتدون في البر والبحر ثم انتهوا ، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وتعرفون ما يحل لكم ويحرم عليكم من النساء ثم انتهوا ) . وفيه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على المسند عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا علي ! أسبغ الوضوء وإن شق عليك ، ولا تأكل الصدقة ولا تنز الحمير على [ ص: 203 ] الخيل ، ولا تجالس أصحاب النجوم ) وفيه عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن عمر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا تسألوا عن النجوم ، ولا تفسروا القرآن برأيكم ، ولا تسبوا أصحابي ؛ فإن ذلك الإيمان المحض ) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النظر في النجوم - رواه من طرق كثيرة; وعن عائشة - رضي الله عنها - مثله سواء ، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا ) - رواه من طرق وأسند عن قتادة قوله تعالى : وأنهارا وسبلا قال : طرقا وعلامات قال : هي النجوم ، قال : إن الله - عز وجل - إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوما للشياطين ، فمن تعاطى فيها [شيئا] غير ذلك فقد أخطأ حظه وقال رأيه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به - في كلام طويل حسن ، [وهذا الأثر الذي عن قتادة أخرجه عنه البخاري في صحيحه] ، وقال صاحب ( كنز اليواقيت في استيعاب المواقيت ) في مقدمة الكتاب : واعلم أن العلم منه محمود ، ومنه مذموم لا يذم لعينه ، إنما يذم في حق العباد لأسباب ثلاثة: أولها : أن يكون مؤديا إلى ضرر كعلم السحر [ ص: 204 ] والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن به وأنه سبب للتفرقة بين الزوجين ، وسحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرض بسببه ، حتى أخبره جبرئيل - عليه السلام - وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر - كما ورد في الحديث الصحيح; ومعرفة ذلك من حيث إنه معرفة ليس مذموما ، أو من حيث إنه لا يصلح إلا لإضرار بالخلق يكون مذموما . والوسيلة إلى الشر شر. الثاني : أن يكون مضرا بصاحبه في غالب الأمر كالقسم الثاني من علم النجوم الإحكامي المستدل به على الحوادث بالأسباب كاستدلال الطبيب بالنبض على ما يحدث من المرض ، وهو معرفة مجاري سنة الله وعادته في خلقه ، ولكنه ذمه الشرع وزجر عنه لثلاثة أوجه : أحدها : أنه يضر بأكثر الناس فإنه إذا قيل : هذا الأمر لسبب سير الكواكب ، وقر في نفس الضعيف العقل أنه مؤثر ، فينمحي ذكر الله عن قلبه ، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط بخلاف العالم الراسخ ، فإنه يطلع على الشمس والقمر والنجوم مسخرات ، وفرق كبير بين من يقف مع الأسباب وبين من يترقى إلى مسبب الأسباب ، ثم ذكر ما حاصله أن السبب الثاني في النهي عنه أنه تخمين لا يصل إلى القطع; والثالث أنه لا فائدة فيه ، فهو خوض في [ ص: 205 ] فضول ، وأن السبب الثالث مما يذم به ما يذم من العلوم أنه مما لا تبلغه عقول أكثر الناس ولا يستقل به ، ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الأشخاص كما يضر لحم الطير بالرضيع . انتهى . وروى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) [وقال صاحب كتاب : ( الزينة ) في آخر كتابه بعد أن ذكر العيافة والزجر ونحوهما ، ويأتي أكثره عنه في سورة الصافات : وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إياكم والنجوم ! فإنها تدعو إلى الكهانة ) ، قال : هذه الأشياء كلها لها أصل صحيح ، فمنها ما كانت من علوم الأنبياء مثل النجوم والخط وغير ذلك ، ولولا الأنبياء الذين أدركوا علم النجوم وعرفوا مجاري الكواكب في البروج وما لها من السير في استقامتها ورجوعها ، وما قد ثبت وصح من الحساب في ذلك بما لا ارتياب فيه - لما قدر الناس على إدراكه ، وذلك كله بوحي من الله - عز وجل - إلى أنبيائهم - عليهم السلام - وقد روي أن إدريس - عليه السلام - أول من علم النجوم ، وروي في الخط أنه كان علم نبي من الأنبياء ، ولولا ذلك لما أدرك الناس هذه اللطائف ولا عرفوها] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت هذه الآيات قد بلغت في البيان حدا علا عن [ ص: 206 ] طوق الإنسان والملائكة والجان لكونها صفة الرحمن ، فكانت فخرا يتوقع فيه التنبيه عليه [فقال] : قد فصلنا أي : بينا بيانا شافيا على ما لنا من العظمة الآيات واحدة في إثر واحدة على هذا الأسلوب المنيع والمثال الرفيع . ولما كانت من الوضوح في حد لا يحتاج إلى كثير تأمل قال : لقوم يعلمون أي : لهم قيام فيما إليهم ، ولهم قابلية العلم ليستدلوا بها بالشاهد على الغائب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية