الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب وجوب متابعة الإمام والنهي عن مسابقته

                                                                                                                                            1051 - ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي لفظ : { إنما الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر ، وإذا ركع فاركعوا ، ولا تركعوا حتى يركع ، وإذا سجد فاسجدوا ، ولا تسجدوا حتى يسجد } رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            [ ص: 167 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            [ ص: 167 ] في الباب غير ما ذكر المصنف عن عائشة عند الشيخين وأبي داود وابن ماجه . وعن جابر عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه ، وعن ابن عمر عند أحمد والطبراني . وعن معاوية عند الطبراني في الكبير . قال العراقي : ورجاله رجال الصحيح . وعن أسيد بن حضير عند أبي داود وعبد الرزاق . وعن قيس بن فهد عند عبد الرزاق أيضا . وعن أبي أمامة عند ابن حبان في صحيحه . قوله : { إنما جعل الإمام ليؤتم به } لفظ ( إنما ) من صيغ الحصر عند جماعة من أئمة الأصول والبيان . ومعنى الحصر فيها : إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه .

                                                                                                                                            واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر وإنما تفيد تأكيد الإثبات فقط . ونقله أبو حيان عن البصريين ، وفي كلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ما يقتضي نقل الاتفاق على إفادتها للحصر ، والمراد بالحصر هنا حصر الفائدة في الاقتداء بالإمام والاتباع له ومن شأن التابع أن لا يتقدم على المتبوع

                                                                                                                                            ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها الحديث ولا في غيرها قياسا عليها ، ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة لا الباطنة وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية فلا يضر الاختلاف فيها ، فلا يصح الاستدلال به على من جوز ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر ، ومن يصلي الأداء بمن يصلي القضاء ، ومن يصلي الفرض بمن يصلي النفل وعكس ذلك ، وعامة الفقهاء على ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام ، وترك مخالفته له في نية أو غيرها ، لأن ذلك من الاختلاف ، وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : " فلا تختلفوا " . وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم قد بين وجوه الاختلاف فقال : " فإذا كبر فكبروا " . . . إلخ ، ويتعقب بإلحاق غيرها بها قياسا كما تقدم .

                                                                                                                                            وقد استدل بالحديث أيضا القائلون بأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الإمام إذا بان جنبا أو محدثا أو عليه نجاسة خفية ، وبذلك صرح أصحاب الشافعي بناء على اختصاص النهي عن الاختلاف بالأمور المذكورة في الحديث ، أو بالأمور التي يمكن المؤتم الاطلاع عليها . قوله : ( فإذا كبر فكبروا ) فيه أن المأموم لا يشرع في التكبير إلا بعد فراغ الإمام منه ، وكذلك الركوع والرفع منه والسجود .

                                                                                                                                            ويدل على ذلك أيضا قوله في الرواية الثانية " ولا تكبروا ولا تركعوا ولا تسجدوا " وكذلك سائر الروايات المشتملة على النهي وسيأتي . وقد اختلف في ذلك هل هو على سبيل الوجوب أو الندب ؟ والظاهر الوجوب من غير فرق بين تكبيرة الإحرام وغيرها . قوله : ( وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ) فيه دليل لمن قال : إنه يقتصر المؤتم في ذكر الرفع من الركوع على قوله : ربنا لك الحمد ، وقد قدمنا بسط ذلك في باب ما يقول : في رفعه من الركوع من أبواب صفة الصلاة ، وقد قدمنا أيضا الكلام على اختلاف الروايات في زيادة الواو وحذفها .

                                                                                                                                            قوله : ( وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا ) فيه دليل لمن قال : إن المأموم يتابع الإمام [ ص: 168 ] في الصلاة قاعدا وإن لم يكن المأموم معذورا ، وإليه ذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي وأبو بكر بن المنذر وداود وبقية أهل الظاهر ، وسيأتي الكلام على ذلك في باب اقتداء القادر على القيام بالجالس قوله : ( أجمعون ) كذا في أكثر الروايات بالرفع على التأكيد لضمير الفاعل في قوله : " صلوا " وفي بعضها بالنصب على الحال .

                                                                                                                                            1052 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار ، أو يحول الله صورته صورة حمار ؟ } رواه الجماعة ) .

                                                                                                                                            1053 - ( وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            1054 - ( وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ، ولا ترفعوا حتى يرفع } رواه البخاري ) . قوله : ( أما يخشى أحدكم ) أما مخففة حرف استفتاح مثل ألا ، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهي هنا استفهام توبيخ . قوله : ( إذا رفع رأسه قبل الإمام ) زاد ابن خزيمة " في صلاته " والمراد الرفع من السجود . ويدل على ذلك ما وقع في رواية حفص بن عمر : " الذي يرفع رأسه والإمام ساجد " وفيه تعقب على من قال : إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم في الرفع من الركوع والسجود معا ، وليس كذلك بل هو نص في السجود ويلتحق به الركوع لكونه في معناه .

                                                                                                                                            ويمكن الفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية ، لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه . وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود فقيل : يلتحق به من باب الأولى ; لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل ، والركوع والسجود من المقاصد ، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد . قال الحافظ : ويمكن أن يقال : ليس هذا بواضح لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله . قال : وقد ورد [ ص: 169 ] الزجر عن الرفع والخفض قبل الإمام من حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا { الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان } وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ . قوله : ( أو يحول الله صورته . . . إلخ ) الشك من شعبة ، وقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة عن حماد بن زيد ومسلم عن يونس بن عبيد والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد ، فأما الحمادان فقالا : " رأس " وأما الربيع فقال : " وجه " وأما يونس فقال : " صورة " والظاهر أنه من تصرف الرواة . قال عياض : هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه . قال الحافظ : لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا .

                                                                                                                                            وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمد ، وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية . وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات ، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب ، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئه صلاته ، وعن ابن عمر : يبطل ، وبه قال أحمد في رواية ، وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد والوعيد بالمسخ في معناه . وقد ورد التصريح بالنهي في رواية أنس المذكورة في الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود . وقد اختلف في معنى الوعيد المذكور ، فقيل : يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي ، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام ، ويرجح هذا المجاز أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين لكن ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد ، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك ، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوعه ، وقيل : هو على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك . وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة . وأما ما ورد من الأدلة القاضية برفع المسخ عنا فهو المسخ العام .

                                                                                                                                            ومما يبعد المجاز المذكور ما عند ابن حبان بلفظ { أن يحول الله رأسه رأس كلب } لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار . ومما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل ، وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة ، ولو كان المراد التشبيه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا : فرأسه رأس حمار ، ولم يحسن أن يقال له : إذا فعلت ذلك صرت بليدا ، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة . واستدل بالأحاديث المذكورة على جواز المقارنة . ورد بأنها دلت بمنطوقها على منع المسابقة ، وبمفهومها على طلب المتابعة ، وأما المقارنة فمسكوت عنها . قوله : ( ولا بالانصراف ) قال النووي : المراد بالانصراف : السلام انتهى .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصراف من مكان الصلاة قبل الإمام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء ، أو لاحتمال أن يكون الإمام قد حصل له في صلاته سهو فيذكر وهو في المسجد [ ص: 170 ] ويعود له في قصة ذي اليدين . وقد أخرج أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { حضهم على الصلاة ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة } .

                                                                                                                                            وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات أنه قال : " إذا سلم الإمام وللرجل حاجة فلا ينتظره إذا سلم أن يستقبله بوجهه ، وإن فصل الصلاة التسليم " وروي عنه أنه كان إذا سلم لم يلبث أن يقوم أو يتحول من مكانه . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية