الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 299 ] مسألة في الرمي بالنشاب [ ص: 300 ] قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية تغمده الله برحمته:

مسألة في الرمي بالنشاب والبندق، وما اصطلحوا عليه من الرسوم في الأستاذية:

الجواب: الحمد لله رب العالمين.

الرمي بالنشاب من الأعمال الصالحة التي أمر الله بها ورسوله، قال الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [الأنفال: 60].

وثبت في « صحيح مسلم» عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال: « ألا إن القوة الرمي»، وفي « الصحيح» أيضا أنه قال: « ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي [من] أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها»، وقال صلى الله عليه وسلم: « كل لهو يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أوملاعبته امرأته، فإنهن [ ص: 302 ] من الحق». وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرمون بالنشاب.

فصل: ويجوز فيه الرهان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا سبق إلا في ثلاث: خف أو حافر أو نصل».

وأما الرمي بالبندق، ويسمى الرمي بالجلاهق، فلم يكن السلف يفعلونه، ولكن أحدثه بعض الناس في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فنهى عنه أمير المؤمنين.

وذكر بعض العلماء أنه من أعمال قوم لوط.

وما قتله البندق فهو وقيذ، وقيل: لا يحل أكله باتفاق الأئمة الأربعة، [ ص: 303 ] بخلاف ما قتله النشاب، فإنه إذا سمى الله وقتل به حل أكله باتفاق علماء المسلمين.

والأمور التي ابتدعها رماة البندق من الأيمان التي يسمونها أيمان البندق من البدع التي لا أصل لها في الشريعة، لا سيما ما يذكر عنهم أنهم يحلفون بالله ويكذبون، ويحلفون بأيمان البندق ويصدقون، فإن هذا ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر. لا سيما إذا حكم حاكمهم -حاكم الجاهلية الذين يحكمون بغير ما أنزل الله- إذا حلف بالله يمينا فاجرة لا يهددونه، وإذا حلف بالبندق يمينا كاذبة يهددونه. وهذا حكم من لا يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر.

وكذلك القوانين التي وضعوها بمنزلة الشريعة، ويقدمون فيها أكابرهم، يسألونهم فيفتوهم، ويحكمون بينهم بغير ما أنزل الله، بل يحكم بجهالته، من جنس يساق التتر، وسوالف الأعراب، وشر من ذلك. وقد قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44].

وحكامهم يحكمون بالجهل وبغير ما أنزل الله، يرفعون من لم يأمر الله ورسوله برفعه، ويخفضون من لم يأمر الله ورسوله بخفضه، [ ص: 304 ] ويسقطون ويجرمون من خالف بعض قوانينهم المبتدعة.

ولم يكن السلف يرمون بالبندق، ولا يفعلون شيئا من هذه البدع; لأن الاجتماع على رمي البندق كثير الشر والضرر، قليل الخير والمنفعة; فإنه لم يهزم عدو برمي البندق، ولا فتحت به مدينة، ولا قام به دين، وقتيله لا يحل أكله، لا سيما وأكثر ما يرمونه من الطير لا يحل أكله.

والمقصود بالرمي عدو يقتله أو صيد يأكله، وهذا لا يقصد به عدو يقتله ولا صيد يأكله، بل الافتخار بالباطل الذي [لا] ينفع.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك، فنهى أن يجعل الطير والبهيمة غرضا يقصد برمي الأغراض التي تنصب للرمي، فإن ذلك تعذيب للحيوان [ ص: 305 ] بغير مصلحة راجحة، وهذا لا يجوز، فإن الله تبارك وتعالى إنما أباح تعذيب الحيوان بالذبح والركوب، لما في ذلك من مصلحة بني آدم، فإذا جعل الطير هدفا يرمى إليه، كان ذلك تعذيبا له بغير مصلحة راجحة.

ورماة البندق لا يقصدون بالرمي ذكاة الطير ليؤكل، وإنما يقصدون الإصابة، من جنس ما [يتخذ] لرمي الأغراض والأهداف، وهذا لا يجوز. بل لو قصد قوم أن يرموا الطير بالنشاب لمجرد إصابة الطير من غير قصد الذكاة لم يجز ذلك.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من قتل عصفورا بغير حقه جاء يوم القيامة وأوداجه تشخب دما». ولفظه: « من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة وله جؤار إلى الله يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني»، وفي لفظ: « من قتل عصفورا بغير حقه سأله الله عنه يوم القيامة». رواه أحمد، [ ص: 306 ] وروي عنه صلى الله عليه وسلم: « أنه نهى عن قتل الحيوان لغير مأكلة». وهؤلاء يقتلون الطير لغير مأكلة وبغير حقه، بل عبثا ولعبا بالباطل.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في « الصحيح»: أنه نهى عن الخذف وقال: « إنه لا يصيد صيدا ولا ينكأ عدوا، ولكن يفقؤ العين ويكسر السن»، فدل ذلك على أن ما كان من الرمي لا يقصد به الصيد ولا ينكأ به عدو فهو ينهى عنه. ورمي البندق لا يقصد به نكاية عدو، فإن غالب ما يقتلونه بالبندق لا يحل أكله، ولا يعرف أنه فتح مدينة برمي البندق، ولا هزم به عدو، ولا قام به دين، وإنما يقصد أصحابه التقدم بأمر لا منفعة فيه للمسلمين لا في دينهم ولا دنياهم.

وأيضا فرمي البندق تنفق فيه الأموال لا في مصلحة دين ولا دنيا، [ ص: 307 ] ويصدهم ذلك عما ينفعهم في الدين والدنيا، ويوقع بينهم الشر، ويجرهم إلى الاختلاء لفعل الفواحش وفساد الأولاد المسلمين، قل من يصحبهم من الأحداث إلا كان عند المسلمين معيبا ناقص الحرمة، من جنس المجتمعين بقاعات العلاج، فإن سيرة الطائفتين مذمومة عند عامة المسلمين، والله أعلم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية