الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 156 ] 883 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفضيله من اعتزل شرور الناس حتى صار بذلك منقطعا عنهم على من سواه ممن يخالط الناس

5539 - حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم جلوس في مجلس لهم إذ جاءهم فقال : ألا أخبركم بخير الناس منزلا ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : آخذ بعنان فرسه في سبيل الله حتى يقتل أو يموت ، وأخبركم بالذي يليه ؟ قلنا : نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس ، وأخبركم بشر الناس منزلا ؟ قلنا : نعم يا رسول الله ، قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي به .

[ ص: 157 ] هكذا حدثنا يونس هذا الحديث فقال في إسناده : عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، وقد خولف عن غير ابن وهب في إسناده .

5540 - كما حدثنا ربيع الجيزي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر مثله ، غير أنه لم يذكر في آخره : وأخبركم بشر الناس منزلا ... إلى آخر الحديث .

5541 - وكما حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب ، ولم يذكر بين ابن أبي ذئب وبين إسماعيل سعيد بن خالد ، عن عطاء بن يسار [ ص: 158 ] ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم جلوس ، ثم ذكر مثل حديث يونس ، والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك .

وقد روى بكير بن عبد الله بن الأشج هذا الحديث ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار قال : ....

5542 - كما حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو : أن بكير بن الأشج حدثه ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا أخبركم بخير الناس ؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ، وأخبركم بالذي يتلوه ؟ رجل معتزل في غنيمة يؤدي حق الله فيها ، وأخبركم بشر الناس ؟ رجل يسأل بالله ولا يعطي به .

[ ص: 159 ] فقال قائل : رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف ما في هذا الحديث من تفضيله اعتزال الناس على مخالطتهم ، وقد رويتم عنه ما يخالف ذلك .

5543 - فذكر ما قد حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، يعني الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : أحسبه ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم [ ص: 160 ] .

5544 - وحدثنا أحمد بن أبي عمران ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، حسبته قال ابن عمر ، عن النبي عليه السلام قال : المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .

5545 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا عمرو بن عون [ ص: 161 ] الواسطي ، أخبرنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ، قال : ففي هذا الحديث ضد ما في الحديث الأول ، فكان جوابنا له في ذلك أنه لا تضاد في هذا الحديث وفي الحديث الأول ؛ لأن الذي في الحديث الأول من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير الناس منزلا رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله حتى يقتل أو يموت ، خرج مخرج العموم والمراد به الخصوص ، وهو من خير الناس ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر غيره بمثل ذلك ؛ فقال : خير الناس من طال عمره وحسن عمله ، وقال : خياركم من تعلم القرآن وعلمه .

وكان ذلك لإطلاق اللغة إياه ولاستعمال العرب مثله ، فيذكر بالعموم ما يريد به الخصوص حتى جاء بذلك كتاب الله في قصة صاحبة سبأ وأوتيت من كل شيء ولم تؤت من شيء مما أوتيه سليمان صلوات الله عليه من الأشياء التي خصه الله بها دون الناس ، فمثل ذلك ما في هذا الحديث مما قد جاء بالعموم هو على الخصوص لما قد دل عليه مما قد ذكرنا ، وكان قوله صلى الله عليه وسلم فيه : ألا أخبركم بالذي يليه ؟ هو على مثل ذلك أيضا من ذكره إياه أنه خير أهل المنزلة التي هو من أهلها يحتمل أن يكون على أنه من خير أهل [ ص: 162 ] تلك المنزلة ، وإذا جاز ذلك في التخصيص من أهل المنزلة التي هو منها جاز أن تكون المنزلة التي هو منها بينها وبين المنزلة المذكورة قبلها منزلة أخرى ، إذ لعلها فوق المنزلة التي هي قبلها أيضا على ما ذكر في الحديث المذكور فيه ، فيكون من يخالط الناس من المؤمنين ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم باعتزاله شرورهم وانقطاعه عنهم فيما ذكر انقطاعه عنهم فيه .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الذي قد رويناه فيما تقدم من كتابنا هذا في الثلاثة الذين يحبهم الله فذكر فيهم رجلا له جار يؤذيه فيصبر على أذاه ويحتسبه حتى يفرج الله له منه إما بموت وإما بغيره ، وإذا كان من هذه سبيله من محبة الله عز وجل إياه على ما هو عليه منها ، وإنما هو في صبره على إيذاء رجل واحد كان من بذل نفسه للناس وخالطهم وصبر على أذاهم واحتسبه بذلك أولى وبالزيادة من الله تعالى له فيه أحرى .

وقد يحتمل أن يكون الذي أريد بالتفضيل في ترك مخالطة الناس أريد به وقت من الأوقات ولم يرد به كل الأوقات ، ويكون الوقت الذي أريد به هو الوقت المذكور في حديث أبي ثعلبة الخشني مما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا له عند سؤاله إياه عن المراد بقول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل [ ص: 163 ] ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا بد لك منه ؛ فعليك أمر نفسك ، وإياك أمر العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ، صبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل يومئذ منكم كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله .

وقد ذكرنا هذا الحديث بأسانيده فيما تقدم منا في كتابنا هذا فيكون اعتزال الناس في ذلك الزمان أفضل من مخالطتهم ، ونعوذ بالله من ذلك الزمان ويكون ما سواه من الأزمنة بخلافه ، ويكون المراد بتفضيل مخالطة الناس فيه على ترك مخالطتهم هو ذلك الزمان حتى لا يضاد شيء من هذين الحديثين اللذين ذكرنا شيئا منهما .

ومما قد روي عن ابن عباس حديثه الذي ذكرناه في هذا الباب من وجه آخر .

5546 - كما حدثنا علي بن شيبة ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا حبيب بن شهاب بن مدلج العنبري قال : سمعت أبي يحدث قال : أتيت ابن عباس أنا وصاحب لي فلقينا أبا هريرة عند باب ابن عباس فقال : من أنتما ؟ فأخبرناه ، فقال : انطلقا إلى ناس على تمر وماء ، إنما يسيل كل واد بقدره ، قلنا : كثر خيرك ، استأذن لنا على ابن عباس فاستأذن فسمعنا ابن عباس يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تبوك فقال : ما في الناس مثل رجل آخذ بعنان فرسه ليجاهد في سبيل الله ويجتنب شرور الناس ، ومثل [ ص: 164 ] رجل باد في غنمه يقري ضيفه ويؤدي حقه .

قلت : أقالها ؟ قال : قالها ، قلت : أقالها ؟ قال : قالها ، قلت : أقالها ؟ قال : قالها ، قال : فكبرت وحمدت الله عز وجل وشكرت
.

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث ذكر النبي عليه السلام أهل المنزلتين المذكورتين في الحديث الأول بغير تقديم منه أهل إحداهما على ذكر أهل الأخرى ، ففي ذلك ما قد دل أنهم قد كانوا يذكرون الأشياء بمراتب يقدمون بعضها على بعض وهي في الحقيقة معها غير متقدمة عليها .

ومما يؤكد ما تأولنا هذا الحديث عليه وصرفنا معناه إليه مما قد ذكرنا أنه في زمن خاص .

5547 - ما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عثمان الشحام ، عن مسلم بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها ستكون فتن ، ألا ثم [ ص: 165 ] تكون فتنة المضطجع فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، فإذا وقعت فمن كانت له أرض فليلحق بأرضه ، ومن كانت له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، فقال رجل : يا رسول الله فمن لم يكن له أرض ولا إبل ولا غنم ؟ قال : فليغمد سيفه ، فليكلمه ثم ينجو إن استطاع النجاة ، ثم قال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ فقالوا : نعم ، فقال : اللهم فاشهد ، فقال رجل : يا رسول الله فإن أكرهت حتى يذهب بي فأصير بين الفئتين فيجيء الرجل فيقتلني ؟ فقال : يبوء بإثمك وإثمه ويكون من أصحاب النار .

5548 - وما قد حدثنا علي بن معبد ، حدثنا روح بن عبادة ، عن عثمان الشحام ، ثم ذكر بإسناده مثله إلى قوله : ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ولم يذكر ما بعد ذلك في حديث بكار إلى آخره .

[ ص: 166 ] قال أبو جعفر : وكان اعتزال الناس في الحال المذكورة في هذا الحديث في مرتبة عالية ، فيحتمل أن تكون هي المرتبة المرادة في الحديث الآخر ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية