الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا

الإشارة بـ "ذلك" إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم والعبرة التي جعلت فيهم. و"البعث": التحريك عن سكون، واللام في قوله تبارك وتعالى: "ليتساءلوا" لام الصيرورة; لأن بعثهم لم يكن لنفس تساؤلهم، وقول القائل: كم لبثتم يقتضي أنه هجس بخاطره طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت والهواء الزمني لا تباين التي ناموا فيها، وأما أن يحدد الأمر جدا فذلك بعيد.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : "بورقكم" [ ص: 584 ] بكسر الراء، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : "بورقكم" بسكون الراء، وهما لغتان، وحكى الزجاج قراءة "بورقكم" بكسر الواو وسكون الراء دون إدغام، وروي عن أبي عمرو الإدغام، وإنما هو إخفاء; لأن الإدغام مع سكون الراء متعذر، وأدغم ابن محيصن القاف في الكاف، قال أبو حاتم : وذلك إنما يجوز مع تحريك الراء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "بوارقكم"، اسم جمع كالجائل والباقر، وقرأ أبو رجاء: "بورقكم" بكسر الواو والراء والإدغام.

ويروى أنهم انتبهوا أحيانا، وأن المبعوث هو تمليخا، وروي أنهم ناموا ليلة واحدة وبعثوا تمليخا في صبيحتها.

وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه لطول السنين، وروي أن راعيا هدمه ليدخل فيه غنمه. فأخذ تمليخا ثيابا منكرة رثة ولبسها، وخرج من الكهف، فأنكر ذلك البناء المهدوم; إذ لم يعرفه بالأمس، ثم مشى فجعل يذكر الطريق والمعالم ويتحير، وهو في ذلك لا يشعر شعورا تاما، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده، حتى بلغ باب المدينة، فرأى على بابها أمارة الإسلام فزادت حيرته وقال: كيف هذا ببلد دقنيوس وبالأمس كنا معه حيثما كنا؟ فنهض إلى باب آخر فرأى نحوا من ذلك حتى مشى الأبواب كلها، فزادت حيرته ولم يميز بشرا، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى فاستراب بنفسه وظن أنه جن وانفسد عقله، فبقي حيران يدعو الله تعالى، ثم نهض إلى بائع الطعام الذي أراد شراءه، فقال: يا عبد الله بعني من طعامك بهذا الورق، فدفع إليه دراهم كأخفاف الربع فيما يذكر، فعجب لها البياع ودفعها إلى آخر بعجبه، وتعاطاها الناس وقالوا له: هذه دراهم عهد فلان الملك، من أين أنت؟ وكيف وجدت هذا الكنز؟ فجعل يبهت ويعجب، وقد كان بالبلد مشهورا هو وفتيته، فقال: ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة، فقال الناس: هذا مجنون، اذهبوا به إلى الملك، ففزع عند ذلك، فذهب به حتى جيء به الملك، فلما لم ير دقنيوس الكافر تأنس، وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا يسمى تيروسيس، فقال له الملك: أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له: إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة، فأوينا إلى [ ص: 585 ] الكهف الذي في جبل أنجلوس، فلما سمع الملك ذلك قال -في بعض ما روي-: لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية، فلنسر إلى الكهف معه حتى نرى أصحابه، فسار. وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاء هم الفتية الذين أرخ أمرهم على عهد دقنيوس الملك وكتب على لوح النحاس بباب المدينة، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه، فلما انتهوا إلى الكهف قال تمليخا: أدخل عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، وأعلمهم بالأمر وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سروا وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم، ثم رجعوا إلى كهفهم، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حيث حدثهم تمليخا، فانتظرهم الناس، فلما أبطأ خروجهم دخل الناس إليهم، فرعب كل من دخل، ثم أقدموا فوجدوهم موتى، فتنازعوا بحسب ما يأتي في الآية التي بعد هذه.

وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف، فاختصرته وذكرت المهم الذي تتفسر به ألفاظ هذه الآية، واعتمدت ا لأصح، والله المعين برحمته.

وفي هذه البعثة بالورق الوكالة وصحتها، وقد وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهم.

وقرأ الجمهور: "فلينظر" بسكون لام الأمر، وقرأ الحسن : "فلينظر" بكسرها. و"أزكى" معناها أكثر، فيما ذكر عكرمة ، وقال قتادة : معناه: خير، وقال مقاتل: المراد: أطيب، وقال ابن جبير : المراد: أحل.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

من جهة ذبائح الكفرة وغير ذلك، فروي أنه أراد شراء زبيب، وقيل: بل شراء تمر.

وقوله تعالى: "وليتلطف"، أي: في اختفائه وتحيله، وقرأ الحسن : "وليتلطف" بكسر اللام.

والضمير في "إنهم" عائد على الكفار آل دقنيوس، و إن يظهروا معناه: [ ص: 586 ] يثقفوكم بعلوهم وغلبتهم. وقوله تعالى: يرجموكم قال الزجاج : معناه: بالحجارة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهو الأصح; لأنه كان عازما على قتلهم لو ظفر بهم. و الرجم فيما سلف هي كانت -على ما ذكر- قتلة مخالف دين الناس، إذ هي أشفى لحملة ذلك الدين، ولهم فيها مشاركة، وقال حجاج: "يرجموكم" معناه بالقول. وباقي الآية بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية