الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
والفصل الثاني - أنه لا يباع على المديون ماله في قول أبي حنيفة رحمه الله العروض ، والعقار في ذلك سواء لا مبادلة أحد النقدين بالآخر فللقاضي أن يفعل ذلك استحسانا لقضاء دينه ، وقال أبو يوسف ومحمد يبيع عليه ماله ، فيقضي دينه بثمنه لحديث { معاذ رضي الله عنه ، فإنه ركبته الديون ، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله ، وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص } ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته : أيها الناس إياكم ، والدين ، فإن أوله هم ، وآخره حزن ، وإن أسيفع جهينة قد رضي من دينه ، وأمانته أن يقال : سبق الحاج ، فادان معرضا ، فأصبح ، وقد دين به ألا إني بائع عليه ماله فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص ، فمن كان له عليه دين ، فليفد ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان هذا اتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله ، والمعنى فيه أن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل أنه يحبس إذا امتنع منه وهو ما يجزي فيه النيابة والأصل إن امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما يجزي فيه النيابة ناب القاضي فيه منابه كالذي إذا أسلم عبده ، فأبى أن يبيعه باعه القاضي عليه بهذا والتعيين بعد مضي المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما ، وهذا بخلاف المديون إذا كان معسرا ، فإن القاضي لا يؤاجره ليقضي دينه من أجرته ، وكذلك لا يبيع ما عليه من ثياب بدنه ; لأن ذلك غير مستحق عليه بدليل أنه لا يحبسه لأجله وكذلك الدين إذا وجب على امرأة ، فإن القاضي لا يزوجها ليقضي الدين من صداقها ; لأن ذلك غير مستحق عليها بدليل أنها لا تحبس لتباشر ذلك بنفسها فلا ينوب القاضي فيه منابها وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ، وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض .

وقال عليه الصلاة والسلام { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه } . ونفسه لا تطيب ببيع القاضي ماله عليه ، فلا ينبغي له أن يفعله لهذا الظاهر ، والمعنى فيه أن بيع المال غير مستحق عليه ، فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عند امتناعه كالإجارة والتزويج : بيان الوصف أن المستحق عليه قضاء الدين ، وجهة بيع المال غير متعين لقضاء الدين ، فقد يتمكن من قضاء الدين بالاستيهاب ، والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون [ ص: 165 ] للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله ، والدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق وقد ورد الأثر به على ما روي { أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه ، وبين غيره ، فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له ، وضمن نصيب شريكه } ، ونحن نعلم أنه ما حبسه إلا بعد علمه بيساره ; لأن ضمان المعتق لا يجب إلا على الموسر ومع ذلك اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبسه حتى باع بنفسه ، فعرفنا أن المديون يحبس لقضاء الدين ، ولو جاز للقاضي بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما في الحبس من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم ، فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة وفي اتفاق العلماء رحمهم الله على حبسه في الدين دليل على أنه ليس للقاضي ولاية بيع ماله في دينه ، وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم ; لأن عند إصرار المولى على الشرك إخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه ، فينوب القاضي منابه .

وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الإمساك بالمعروف فالتسريح مستحق عليه بعينه ، فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بأن كان الدين عليه دراهم وماله دنانير ، ففي القياس ليس للقاضي أن يباشر هذه المصارفة ; لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه ، وهو قضاء الدين ، وفي الاستحسان يفعل ذلك ; لأن الدراهم والدنانير جنسان صورة وجنس ، واحد معنى ، ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ، ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان للقاضي أن يقضي دينه به فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى ، فإن قيل : فعلى هذا ينبغي أن يكون لصاحب الدين ولاية الأخذ من غير قضاء كما لو ظفر بحبس حقه ، وبالإجماع ليس له ذلك قلنا ; لأنهما جنسان صورة ، وإن كانا جنسا واحدا حكما ، فلانعدام المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين ، فيأخذه ; لأن فيه معنى المبادلة من وجه ، ولوجود المجانسة معنى قلنا للقاضي أن يقضي دينه به يوضحه أن من العلماء من يقول لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء ، ولا رضا ، وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله والقاضي مجتهد ، فجعلنا له ولاية الاجتهاد هنا في مبادلة أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه ، ولا يوجد هذا المعنى في سائر الأموال ، وفيه إضرار بالمديون من حيث إبطال حقه عن عين ملكه ، وللناس في الأعيان أغراض ، ولا يجوز للقاضي أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به ، فوق ما هو مستحق عليه ، ثم هذا المعنى لا يوجد في النقود ; لأن المقصود هناك المالية دون العين .

وأما تأويل معاذ رضي الله عنه ، فنقول إنما باع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله بسؤاله ; لأنه لم يكن في ماله ، وفاء بدينه فسأل رسول [ ص: 166 ] الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيصير فيه وفاء بديونه ، وهذا ; لأن عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا ، فإذا امتنع ، فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ رضي الله عنه أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله حتى يحتج ببيعه عليه بغير رضاه ، فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ، ولأجله ركبته الديون ، فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله .

صلى الله عليه وسلم والمشهور في حديث أسيفع رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال إني قاسم ماله بين غرمائه ، فيحمل على أنه كان ماله من جنس الدين ، وإن ثبت البيع فإنما كان ذلك برضاه ( ألا ترى ) أن عندهما القاضي لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ، ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك ، وأمرهم أن يفدوا إليه ، فدل أنه كان ذلك برضاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية