الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

                                                          حرم المشركون أو بعضهم اللبس في الطواف، وحرموا بعض الأطعمة، وأباح الله تعالى ذلك للمسلمين في غير إسراف ولا لتفاخر، بل بتجمل وتستر، بعد ذلك بين الله ما حرمه على الناس، وتحريمه مستمد من الفطرة; ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ما حرم والفطرة تحرمه، قال عز من قائل: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق

                                                          أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (قل) لأنه مبين شريعة القرآن، والمبلغ لها، وبين لهم قصر التحريم على الفواحش والإثم والبغي والشرك والكذب على الله.

                                                          و(إنما): للقصر، أي أن التحريم مقصور على هذه المحرمات كلها، وأهل الشرك ما كانوا يتحرجون عنها بل ارتكبوها كلها، وقال سبحانه: (حرم ربي) للإشارة إلى أن المحرم هو رب الوجود ورب الإنسان الذي يعلم الفطرة، وفي ذلك إشارة إلى أن الذي حرم هذا إنما حرمه متسقا مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وهو رب كل شيء، والفواحش هي الأمور التي تفحش وتزيد على [ ص: 2823 ] الفطرة، وهي تشمل كل المعاصي، وخصوصا كبائر الذنوب، فتشمل كل الموبقات المفسدة للنفوس والجماعات، وبذلك كل ما يجيء من إثم وبغي يدخل في عمومها، ويكون ذكر الإثم والبغي تخصيصا بعد تعميم، فيكون العطف عليها من عطف الخاص على العام.

                                                          وقد نقول: إذا اجتمعا خصص كل واحد بمعنى، فتخصص الفواحش بالمعاصي الصارخة التي تفسد النفس والمجتمع كالزنى والخمر والربا وغير ذلك، وبعضهم خصصها بالزنى وما يتصل به من قذف للمحصنات وغير ذلك، والفواحش على معناها العام والخاص يحرم ما ظهر منها وما بطن، وما يظهر منها وما يعلن، وجريمته جريمتان: جريمة الفعل وجريمة الإعلان، وما بطن ما استتر كاتخاذ الأخدان، ويشمل ما بطن فسق القلوب، وذلك بالعزم على فعل هو شر في ذاته، ولكن يحول دون تنفيذه أمر فوق إرادته فهذا يكون معصية، ولا يدخل في ضمن حديث النفس الذي تجاوزه الله عن أمة محمد; لأنه حدث ونوى واعتزم التنفيذ ولكن حيل بينه وبينه بغير إرادته وعلى رغمه، وقد تكلمنا في ذلك فيما مضى، والإثم ذنب لا يتجاوز أذاه فاعله، فهو يبطئه عن فعل الخير، وآثامه على نفسه كشرب الخمر، وتناول الآفات التي تضر نفسه، ولا تتعدى إلى غيره، وإن كانت التفرقة بينهما في بعض المجتمعات عسيرة، والبغي هو المعصية التي تتعدى إلى غيره، ووصفه سبحانه بقوله: والبغي بغير الحق ولا يكون البغي إلا بغير الحق، وهو تنبيه إلى ما يتضمنه البغي، فهو يتضمن إثم التعدي وإثم أنه فعل غير الحق، فهو تصريح بما هو قبيح في ذاته.

                                                          ومن البغي أكل أموال الناس بالباطل في الربا والرشوة والسحت، ومن البغي أكل مال اليتيم، ومن البغي النميمة والغيبة، وأشد البغي الحكم بغير ما أنزل الله، والحكم بين الناس بالباطل، ومن أفحش البغي ظلم الحكام للرعية والغلظة عليها، وإرهاقها، وإيذاؤها في حرياتها، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق [ ص: 2824 ] به ".

                                                          هذا هو القسم الأول مما حرمه الله تعالى، وهذا القسم الآتي داء الشر؛ ولذا قال تعالى: وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا

                                                          هذا أشد المحرمات، وهو محرم بأمر الله، ومحرم ببديهة العقول، حتى لقد قال العلماء: إن وحدانية الله تعالى أمر تصل إليه العقول بالبديهة أو النظر القريب.

                                                          قال تعالى: وأن تشركوا بالله أي أن تجعلوا شريكا لله تعالى في العبادة شيئا أو جحرا أو شخصا، لم ينزل الله به سلطانا، ويقول العلماء: إن السلطان هنا الحجة أو الدليل.

                                                          وأرى ما رأوا، ولكن في التعبير عن الحجة بـ"سلطان" إشارة إلى معنى أن هذه الأوثان وما شابهها لا قدرة لها، ولا تثبت أن لها قوة تنفع وتضر، ومهما يكن فإنهم يعبدونها بالأوهام المسلطة من غير سلطان من حجة أو دليل، ومن غير أن يعرفوا بالعيان أن لها سلطانا في الأفعال أو التوجيه في الكون، إنما هي الأوهام التي تصورها صالحة للعبادة مع الله تعالى لا شريك له.

                                                          إن من الأمور التي حرمها الله تعالى أن نقول على الله مفترين; ولذا قال تعالى: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

                                                          هذا ثالث نوع من أنواع المحرمات، وهو الافتراء بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون أن الله حكم به وقاله أو شرعه، كتحريم بعض الأحكام، وتحريم لبس اللباس في الطواف، ويقولون: إنه من عند الله، وما هو من عند الله، وكما قال الله - تعالى - في الآية السابقة: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها فذلك افتراء، وهو من أشد الافتراء " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ... " .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية