الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 210 ] 891 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدفع ما رواه بعض الناس عن أبي حنيفة فيمن تنحنح له وهو يصلي فانتظر المتنحنح له

روى بعض الناس عن أبي حنيفة الخوارزمي ، عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت : أن من فعل ذلك كانت صلاته فاسدة وأخشى عليه ، ومعنى ذلك أن يكون عمل بعض صلاته لغير الله ؛ فيكون بذلك كافرا .

[ ص: 211 ] حدثنا أحمد بن أبي عمران بهذا القول ، عن محمد بن شجاع ، عن أبي حنيفة الخوارزمي من هذا الوجه ، ولم يسمع بهذا القول عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله من غير هذا الوجه ، وقد وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدفع هذا القول .

5578 - كما حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن عجلان ، قال : سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت صبي وهو في الصلاة فخفف .

ففي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم خفف في صلاته من أجل بكاء الصبي الذي سمعه وهو فيها .

فقال قائل : ليس في هذا الحديث ما يجب لك به على من روى الرواية التي ذكرتها عن أبي حنيفة ، لأن الذي في هذا الحديث إنما [ ص: 212 ] هو من كلام أبي هريرة ظنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخفيفه كان من أجله ، وقد دل على ذلك .

5579 - ما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاء صبي وهو في صلاة فظننا أنه خفف رحمة لبكاء الصبي ، إذ علم أن أمه معه في الصلاة .

[ ص: 213 ] [ ص: 214 ] فنظرنا هل روي في هذا الباب ما يحقق حكم الواجب في هذا الفعل في الصلاة ، ما هو . ؟

5580 - فوجدنا إبراهيم بن مرزوق ، قد حدثنا ، قال : حدثنا وهب بن جرير بن حازم ، حدثنا أبي ، قال : سمعت محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب يحدث ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، عن أبيه ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء ، وهو حامل أحد ابنيه الحسن أو الحسين ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع الغلام عند قدمه اليمنى ، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها . فقال أبي : فرفعت رأسي من بين الناس ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ساجد وإذا الغلام راكب على ظهره ، فعدت فسجدت ، فلما صلى قالوا : يا رسول الله ، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها أشيء أمرت به ، أم كان يوحى إليك ؟ قال : كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي مني حاجته .

[ ص: 215 ] فكان في هذا الحديث انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه حتى يقضي حاجته منه وهو في الصلاة ، ولم يكن ذلك مفسدا لصلاته ، ولا مخرجا له منها ، فدل ذلك : أنه من كان منه مثل هذا في صلاته لحاجة دعت إليه ، أو لضرورة حلت به أن ذلك غير مفسد لصلاته ولا مكروه منه فيها ، وكيف يكون مثل هذا مفسدا لصلاته ، أو مخرجا له من مثله ، وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقه للمصلي قتل الحية والعقرب في صلاته ؟! وسنذكر ذلك فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله ، ولم يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله ذلك في صلاته تاركا لها ، ولا خارجا منها ، فمثل ذلك من انتظر غيره ليدخل فيها وليدرك من فضلها ما قد طلبه من إتيانها ، لا يكون بفعله ذلك مفسدا لها ولا خارجا من ملته بفعله ما قد فعله فيها منه .

والذي عندنا من قول أبي حنيفة في هذا الباب مما تعلمناه من جالسناه ممن يقول بقوله : إن هذا الفعل في انتظار المتنحنح مكروه ، لأن غيره ممن قد سبقه إلى الصلاة أولى بأن يفعل معه ما يتبع فيه إمامه ، وأن يكون بذلك أولى ممن قصر عن إتيانها وأبطأ فيه ، وهذا أيضا ، فهو مذهب مالك في هذا الباب ، وهو أيضا معنى الشافعي فيه ، أو مروي عنه فيه .

[ ص: 216 ] واستعمال ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وجهه عندنا - والله أعلم - على ما لا زيادة فيه من المتنحنح له يضر من خلفه في صلاته التي قد سبق إليها ويحرم بها ، ونقول : لا بأس بفعل ذلك إذا كان لا ضرر فيه على المصلين معه ، ولا يكون بما يفعله من ذلك يقع عليه اسم متشاغل بخلاف صلاته ، وإنما يكون بفعله في تشاغله بصلاته ، وفي إصلاحه إياها لغيره كما يكون في إصلاحه إياها لنفسه من التقدم من صف إلى صف لسد الخلل الذي فيه ، وقد روي مثل ذلك عن ابن عمر .

كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : عمرو بن مرة أنبأني قال : سمعت خيثمة بن عبد الرحمن ، يقول : صليت إلى جنب ابن عمر ، فرأى في الصف خللا ، فجعل يغمزني أن أتقدم ، وجعلت إنما يمنعني أن أتقدم الضيق بمكاني إذا جلس أن أبعد منه ، فلما أن رأى ذلك تقدم هو .

وهذا ليس من الصلاة التي يكون الناس فيها عليه ، فإنما يكونون عليه عند الحاجة إلى ذلك لإصلاحها ، ولإقامة سنتها إذ كان من سنتها [ ص: 217 ] سد خلل الصفوف فيها ، وإذا كان مثل هذا مباحا للمصلي في أمر نفسه كان مباحا منه لغيره مما يكون ما يفعله له إصلاحا لصلاته ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية