الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا

قوله تعالى: الحياة الدنيا يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وثروة، وقوله: [ ص: 613 ] كماء أنزلناه يريد: هي كماء، وقوله: فاختلط به أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، فالباء في "به" باء السبب; فـ "أصبح" عبارة عن صيرورته إلى ذلك، لا أنه أراد اختصاصا بوقت الصباح، وهذا كقول الربيع بن ضبع:


أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا



و "الهشيم": المتفتت من يابس العشب، ومنه قوله تعالى: كهشيم المحتظر ، ومنه: هشم الثريد، و"تذروه" بمعنى: تفرقه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: "تذريه"، والمعنى: تقلعه وترمي به. وقرأ الحسن : "تذروه الريح" بالإفراد، وهي قراءة طلحة، والنخعي، والأعمش .

وقوله: وكان الله عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان إذ كان، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال غفلة، هذا قول سيبويه ، وهو معنى صحيح. وقال الحسن : "كان" إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات، أي إن القدرة كانت، وهذا أيضا حسن. وقوله: كل شيء يريد: من الأشياء المقدرة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

لا المحالات وغيرها من الأشياء التي لا يوصف الله تبارك وتعالى بالقدرة عليها، ولا بالعجز عنها، وهذا على تسمية المحال شيئا، من حيث هو معقول لا واقع ، وقد جاء أن زلزلة الساعة شيء.

[ ص: 614 ] فمعنى هذا المثال تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي له خضرة ونضرة عن المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك هشيما، ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح يبقى في الآخرة فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء، والخضرة، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ونحوه.

وقوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا لفظه لفظ الخبر، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين; لأنه في المثل قبل حقر أمر الدنيا وبينه، فكأنه يقول في هذه: إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة، فلا تتبعوها أنفسكم. وقوله: "زينة" مصدر، وقد أخبر به عن أشخاص، فإما أن يكون على تقدير محذوف، تقديره: مقر زينة الحياة، وإما أن يضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة.

واختلف الناس في "الباقيات الصالحات" -فقال ابن عباس ، وابن جبير ، وأبو ميسرة، عمرو بن شرحبيل: هي الصلوات الخمس.

وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وروي في هذا حديث: "أكثروا من الباقيات الصالحات"، وقاله ابن عباس أيضا، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات.

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما- أيضا: الباقيات الصالحات: كل عمل صالح من [ ص: 615 ] قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجحه الطبري ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما لكل الأقوام دليل على قوله بالعموم.

وقوله تعالى: خير عند ربك ثوابا وخير أملا ، أي: صاحبها ينتظر الثواب وينبسط أمله على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح.

وقوله تعالى: ويوم نسير الجبال الآية. التقدير: واذكر يوم، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا. وقرأ نافع ، والأعرج ، وشيبة ، وعاصم ، وابن مصرف، وأبو عبد الرحمن : "نسير" بنون العظمة. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو، والحسن ، وشبل، وقتادة ، وعيسى: "تسير" بالتاء، وفتح الياء المشددة "الجبال" بالرفع، وقرأ الحسن : "يسير" بياء مضمومة والثانية مفتوحة مشددة "الجبال" رفعا. وقرأ ابن محيصن : "تسير" بتاء مفتوحة وسين مكسورة، أسند الفعل إلى "الجبال"، وقرأ أبي بن كعب : "ويوم سيرت الجبال".

وقوله تعالى: "بارزة"، إما أن يريد أن الأرض لذهاب الجبال والظراب والشجر، برزت وانكشفت، وإما أن يريد بروز أهلها، والمحشورين من سكان بطنها. "وحشرناهم" أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرضة القيامة. وقرأ الجمهور: "نغادر" بنون العظمة، وقرأ قتادة : "تغادر" على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض. وروى أبان بن زيد عن عاصم : "يغادر" بياء مضمومة وفتح الدال "أحد" بالرفع.

وقرأ الضحاك: "فلم نغدر" بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين.

والمغادرة: الترك، ومنه: غدير الماء، وهو ما تركه السيل.

وقوله تعالى: "صفا" إفراد نزل منزلة الجمع، أي: صفوفا، وفي الحديث الصحيح: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفدهم البصر" الحديث. وفي حديث آخر: "أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون [ ص: 616 ] صفا، أنتم منها ثمانون صفا". وقوله تعالى: لقد جئتمونا إلى آخر الآية، مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون هذه المخاطبة لهم بوجه، وفي الكلام حذف يقتضيه القول ويحسنه الإيجاز، تقديره: يقال للكفرة منهم. كما خلقناكم أول مرة يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا"، كما بدأنا أول خلق نعيده .

التالي السابق


الخدمات العلمية