الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا

"الكتاب" اسم جنس يراد به كتب الناس التي أحصتها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن يكون الموضوع كتابا واحدا حاضرا، و "إشفاق المجرمين": فزعهم من كشفه لهم وفضحه، فشكاية المجرمين إنما هي من الإحصاء، لا من ظلم ولا حيف. [ ص: 617 ] وقدم "الصغيرة" اهتماما بها لينبه منها ويدل أن الصغيرة إذا أحصيت فالكبيرة أحرى بذلك، والعرب أبدا تقدم في الذكر الأقل من كل مقترنين، ونحو هذا قولهم: القمران والعمران، سموا باسم الأقل تنبيها منهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:

"الصغيرة": الضحك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا مثال، وباقي الآية بين.

وقوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطابهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم، صغيرها وكبيرها، وتقدير الكلام: واذكر إذ قلنا وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة إذ هي توطئة النازلة، فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادئ الأمور.

واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة: هو السجود المعروف ووضع الوجه بالأرض، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم ، فهذا كالصلاة للكعبة. وقالت فرقة: بل كان إيماء منهم نحو الأرض، وذلك يسمى سجودا; لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع، ومنه قول الشاعر:


ترى الأكم فيه سجدا للحوافر



قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا جائز أن يكلفه الخالق للفاضل، وجائز أن يتكلفه الفاضل للفاضل، ومنه قول [ ص: 618 ] النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم"، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تلقاه في سفر إلى الشام، ذكره سعيد بن منصور في مصنفه.

وقوله تعالى: إلا إبليس ، قالت فرقة: هو استثناء منقطع; لأن إبليس ليس من الملائكة، بل هو من الجن وهم الشياطين المخلوقون من مارج من نار، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور، واختلفت هذه الفرقة -فقال بعضها: إبليس من الجن، وهو أولهم وبدأتهم، كآدم من الإنس، وقالت فرقة: بل كان إبليس وقبيله جنا، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته، فهو كنوح في الإنس، احتجوا بهذه الآية، وتعنيف إبليس على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة.

وقالت فرقة: إن الاستثناء متصل، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار، فإبليس من الملائكة، وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين، وقال بعض هذه الفرقة: كان في الملائكة صنف يسمى الجن، وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض، وكان إبليس مدبر أمرهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى; إذ كان متصرفا بالأمر والنهي مرسلا، والملك مشتق من المألكة وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قوله: "اسجدوا"، وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور.

وقوله تعالى: "ففسق" معناه: فخرج وانتزح، وقال رؤبة:


يهوين في نجد وغور غائرا ...     فواسقا عن قصدها جوائرا



[ ص: 619 ] ومنه يقال: "فسقت الرطبة" إذا خرجت من قشرتها، و"فسقت الفأرة" إذا خرجت من جحرها، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة إنما هو في فساد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" إنما هن مفسدات.

وقوله تعالى: عن أمر ربه ، يحتمل أن يريد: خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه، كما يفعل الخارج عن طريق واحد، أي: منه، ويحتمل أن يريد: فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها، و"عن" قد تجيء بمعنى "بعد" في مواضع كثيرة، كقولك: "أطعمته عن جوع"، ونحوه، فكأن المعنى: فسق بسبب أمر ربه بأن يطيع، ويحتمل أن يريد: فخرج بأمر ربه، أي بمشيئته ذلك له، ويعبر عن المشيئة بالأمر; إذ هي أحد الأمور، وهذا كما تقول: فعلت ذلك عن أمرك، أي بجدك وبحسب مرادك.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قصص هذه الآية: كان إبليس من أشرف صنف، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون. وقال بعض العلماء: إذا كانت خطيئة المرء من الخطإ فلترجه كآدم ، وإذا كانت من الكفر فلا ترجه كإبليس.

ثم وقف عز وجل الكفرة - على جهة التوبيخ - بقوله: "أفتتخذونه"، يريد: أفتتخذون إبليس، وقوله: "وذريته" ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: "زلنبور" صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق، [ ص: 620 ] و"تبن" صاحب المصائب، و"الأعور" صاحب الرياء، و"مسوط" صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ولا يجدون لها أصلا، و"داسم" الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا وما جانسه مما لم يأت به خبر صحيح فلذلك اختصرته. وقد طول النقاش في هذا المعنى، وجلب حكايات تبعد من الصحة، فتركتها إيجازا، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطانا يسمى "خنزب"، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى "الولهان"، والله أعلم بتفاصيل هذه الأمور، لا رب غيره.

وقوله تعالى: وهم لكم عدو أي: أعداء، فهو اسم الجنس.

وقوله: بئس للظالمين بدلا ، أي: بدل ولاية الله عز وجل بولاية إبليس وذريته، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل، وهذا هو نفس الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية