الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 87 ] 89 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام في صفوف الناس وراءه للصلاة ، وفي قيامه منهم مقام المصلي بهم ، وذكره بعد ذلك أنه كان جنبا وإشارته إليهم أي كما أنتم حتى أتاهم قد اغتسل ورأسه يقطر ماء ، هل كان ذلك منه بعد أن كان كبر للصلاة أو قبل تكبيره كان لها ؟

623 - حدثنا بكار ، حدثنا حبان بن هلال وأبو عمر الضرير ، قالا : حدثنا حماد بن سلمة - واللفظ لأبي عمر - عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة : أن النبي عليه السلام دخل في صلاة الصبح ، فأومأ إليهم أي مكانكم ، ثم جاء ورأسه يقطر ماء فصلى بهم .

[ ص: 88 ]

624 - حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، عن سعيد - يعني : ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن أنس قال : دخل النبي عليه السلام في صلاة فكبر وكبرنا معه ، ثم أشار إلى القوم : أن كما أنتم ، فلم نزل قياما حتى أتانا وقد اغتسل ، ورأسه يقطر ماء .

فقال قائل : هذا حديث خارج عن أقوال العلماء جميعا ؛ لأنه لا اختلاف بينهم فيمن كبر للصلاة وهو جنب غير ذاكر لذلك أنه لا يكون بتكبيره لها داخلا فيها .

فكان جوابنا له في ذلك : أن هذين الحديثين قد رويا كما ذكرنا ، عن الصحابيين اللذين رويا عنهما ، وقد روي عن سواهما من الصحابة أن الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أذن هو قيامه قيام المصلي ، لا دخول منه في الصلاة بتكبيره .

625 - كما حدثنا سليمان بن شعيب ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثني الأوزاعي ، حدثني الزهري ، حدثني أبو سلمة ، [ ص: 89 ] حدثني أبو هريرة قال : أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام مقامه ، ثم ذكر أنه لم يغتسل ، فقال : مكانكم ، فانصرف إلى منزله فاغتسل ، ثم خرج حتى قام مقامه ورأسه يقطر ماء .

626 - وكما حدثنا محمد بن سنان الشيزري ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا بقية بن الوليد وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، عن الأوزاعي ، حدثني الزهري ، حدثني أبو سلمة ، حدثني أبو هريرة ... ثم ذكر مثله .

627 - وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي قال : سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : أقيمت الصلاة وصف الناس ، قال : وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان في مصلاه ذكر أنه لم يغتسل ، فقال : على مكانكم ، ثم رجع فاغتسل وخرج ورأسه ينطف .

628 - وكما حدثنا إبراهيم أيضا ، حدثنا عثمان بن عمر بن [ ص: 90 ] فارس بن لقيط ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ... ثم ذكر مثله .

فكان في هذا ما قد دل على أنه لم يكن دخل في الصلاة ، أو على علمه أنه لم يكن دخل في الصلاة ؛ لقوله لهم : مكانكم ، مع أن هذا - وإن كان اختلافا - فإنه ليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو من حكايات أصحابه عن أفعاله ، والاختلاف من حكاياتهم لا منه ، ونحن نجيب عنهم بما يستوي فيه حكاياتهم ، وتعود إلى ما يعذرون به فيها ، وهي أنا نقول : إن معنى قول أنس وأبي بكرة في حديثهما : ثم دخل في الصلاة على معنى : قرب دخوله فيها ، لا على حقيقة دخوله فيها ، فهذا جائز في اللغة ، حتى قد جاء كتاب الله تعالى بمثل ذلك ، قال الله تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن وهن إذا بلغن أجلهن انقطعت الأسباب بينهن وبين مطلقيهن ، فاستحال أن يمسكوهن بعد ذلك ، وقد بين الله تعالى ذلك في الآية الأخرى ، وهي قوله : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فدل ذلك أنهن بعد انقضاء آجالهن حلال لمن يريد تزويجهن ، وكان ذلك دليلا أن مراده تعالى في الآية الأخرى بذكره بلوغ الأجل أنه قرب بلوغ الأجل لا حقيقة بلوغه ، ومن ذلك أيضا أن المسلمين قد سموا ابن إبراهيم الذي [ ص: 91 ] أمره الله تعالى بذبحه إما إسماعيل وإما إسحاق عليهم السلام ذبيحا ، ولم يذبح ، ولكنه لقربه كان من أن يذبح ، فمثل ذلك ما في حديثي أنس ، وأبي بكرة من الدخول في الصلاة هو على هذا المعنى أيضا ، وهو قرب الدخول فيها لا حقيقة الدخول فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية