الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الخبر عن دخول بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف في الشعب وما لقوا من سائر قريش في ذلك

قال أبو عمر : أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود ، وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا مطرف بن عبد الرحمن بن قيس ، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، قالا : حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب دخل حديث بعضهم في بعض ، قال : ثم إن كفار قريش أجمعوا أمرهم واتفق رأيهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : قد أفسد أبناءنا ونساءنا ، فقالوا لقومه : خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من غير قريش ، وتريحوننا وتريحون أنفسكم ، فأبى قومه بنو هاشم من ذلك ، فظاهرهم بنو المطلب بن عبد مناف ، فأجمع المشركون من قريش على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشعب ، فلما دخلوا إلى الشعب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة وكان متجرا لقريش ، وكان يثني على النجاشي بأنه لا يظلم عنده أحد ، فانطلق إليها عامة من آمن بالله ورسوله ، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب شعبهم ، مؤمنهم وكافرهم ، فالمؤمن دينا والكافر حمية ، فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعه قومه أجمعوا على أن لا يبايعوهم ولا يدخلوا إليهم شيئا من الرفق ، وقطعوا عنهم الأسواق ، ولم يتركوا طعاما ولا إداما ولا بيعا إلا بادروا إليه واشتروه دونهم ، ولا يناكحوهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة ، وتمادوا على العمل بما فيها من [ ص: 223 ] ذلك ثلاث سنين ، فاشتد البلاء على بني هاشم في شعبهم وعلى كل من معهم ، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم قوم من قصي ممن ولدتهم بنو هاشم ومن سواهم ، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة ، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فأكلت ولحست ما في الصحيفة من ميثاق وعهد ، وكان أبو طالب في طول مدتهم في الشعب يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه ، فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها ، فلم يزالوا في الشعب على ذلك إلى تمام ثلاث سنين ، ولم تترك الأرضة في الصحيفة اسما لله عز وجل إلا لحسته وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم ، فأطلع الله رسوله على ذلك فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب ، فقال أبو طالب : لا والثواقب ما كذبتني ، فانطلق في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش ، فلما رأتهم قريش في جماعة أنكروا ذلك ، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم برمته إلى قريش ، فتكلم أبو طالب فقال : قد جرت أمور بيننا وبينكم لم نذكرها لكم ، فائتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم معجبين ، لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم ، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم ، فقال أبو طالب : إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم ؛ إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني ؛ أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله عليها دابة فلم تترك فيها اسما له إلا لحسته ، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم ، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا ، فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم ، فقالوا : قد رضينا بالذي تقول . ففتحوا [ ص: 224 ] الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح ، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : هذا سحر ابن أخيك . وزادهم ذلك بغيا وعدوانا .

وقال ابن هشام : وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب : يا عم إن ربي قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما لله إلا أثبتته ، ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان ، قال : أربك أخبرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : فوالله ما يدخل عليك أحد . ثم خرج إلى قريش ، فقال : يا معشر قريش ! إن ابن أخي أخبرني . وساق الخبر بمعنى ما ذكرناه .

وقال ابن إسحاق ، وابن عقبة وغيرهما : وندم منهم قوم فقالوا : هذا بغي منا على إخواننا وظلم لهم ، فكان أول من مشى في نقض الصحيفة هشام بن عمرو بن الحارث العامري ، وهو كان كاتب الصحيفة ، وأبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى ، والمطعم بن عدي . إلى هنا انتهى خبر ابن لهيعة ، عن أبي الأسود يتيم عروة ، وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب .

وذكر ابن إسحاق فيهم زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي ، وزمعة بن الأسود بن المطلب . وذكر ابن إسحاق في أول هذا الخبر قال : وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة ، وهي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فتعلق به وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ فقال له أبو البختري : [ ص: 225 ] طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ، خل سبيل الرجل ، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا .

وذكر أبو عبد الله محمد بن سعد : هشام بن عمرو العامري المذكور وقال : كان أوصل قريش لبني هاشم حين حصروا في الشعب ، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما ، فعلمت بذلك قريش ، فمشوا إليه حين أصبح ، فكلموه في ذلك ، فقال : إني غير عائد لشيء خالفكم ، فانصرفوا عنه ، ثم عاد الثانية ، فأدخل عليهم ليلا حملا أو حملين ، فغالظته قريش وهمت به ، فقال أبو سفيان بن حرب : دعوه ، رجل وصل أهل رحمه ، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا .

وعن ابن سعد : وكان الذي كتب الصحيفة بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلت يده .

وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان خروجهم في السنة العاشرة ، وقيل : مكثوا في الشعب سنتين .

[ ص: 226 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية