الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وحده الفقهاء بأنه الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده ، وألزموا عليه كون النسخ من باب التخصيص ، فيصح أن ينسخ بما به يخصص ، فينسخ بدليل العقل ، وبالإجماع ، وهو لا يجوز . وإلى كونه بيانا ذهب الأستاذ أبو إسحاق ، والقاضي أبو الطيب ، وسليم ، وإمام الحرمين ، والإمام فخر الدين ، وغيرهم . وحكاه في " المعالم " عن أكثر العلماء . واختاره القرافي . وهؤلاء يجعلون النسخ تخصيصا وبيانا ، أي أن الخطاب الثاني بين أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مرادا من الخطاب الأول كما أن التخصيص . في الأعيان كذلك .

                                                      وأوردوا على من حده بالرفع بأن الرافع الحادث إن وجد حال وجود الأول لم ينافه ، وإن وجد حال عدمه لم يعدمه ، لامتناع إعدام المعدوم . وأجيب بأن الرفع كالكسر والارتفاع كالانكسار ، ولذلك يجعلون [ ص: 200 ] الرفع كفسخ العقود .

                                                      وقالوا أيضا : إنما عدلنا إلى البيان احترازا عن تعارض الرافع والدافع ، والرفع ليس أولى من الدفع ، وهذا منهم بناء على أن الرفع والدفع من مقتضى اللفظ وليس كذلك ، بل الألفاظ دلائل على إرادة الشارع ، والشارع له المحو والإثبات .

                                                      واحتج القائلون بالثاني أيضا بأن علم الله إما أن يتعلق بدوام الحكم أبدا أو إلى وقت معين . وعلى كلا التقديرين فلا يمكن الرفع . أما إذا تعلق بالدوام فلأنه يستحيل رفعه ، لاستحالة وقوع خلاف معلومه . وأما على التقدير الثاني وهو أن يعلم انتهاؤه إلى الوقت ، وإذا كان الانتهاء واجبا في ذلك لم يحصل الرفع الثاني لأنه قد وجب ارتفاعه .

                                                      وأجيب بأنا لا نسلم أنه إذا تعلق العلم بالانتهاء في ذلك الوقت يمتنع الرفع ، لجواز أن يكون العلم تعلق بالانتهاء في ذلك الوقت بالحادث ، فإن العلم يتعلق على ما هو به .

                                                      وتحرير هذا الخلاف أنهم اتفقوا على أن الحكم السابق له انعدام . وتحقق انعدامه ، لانعدام متعلقه ، لا لانعدام ذات الحكم . واتفقوا على أن الحكم المتأخر اللاحق لا بد وأن يكون منافيا للأول ، وأن عنده يتحقق عدم الأول . ثم اختلفوا في عدم الأول هل هو مضاف إلى وجود الحكم المتأخر ؟ فيقال : إنما ارتفع الأول لوجود المتأخر اللاحق ، أو لا يضاف إليه بل يقال : الحكم الأول انتهى ، لأنه كان في نفس الأمر مغيا إلى غاية معلومة لله ، وقد علمناها بالحكم اللاحق المتأخر ، فإذن النزاع في استناد عدم السابق إلى وجود [ ص: 201 ] اللاحق ، فالأستاذ يقول : الحكم في نفس الأمر لم يكن له صلاحية الدوام ، لكونه مغيا إلى غاية معلومة معينة لا نعرفها إلا بعد ورود الناسخ ، فيكون النسخ بيانا ، وبهذا يندفع وهم من قال : إن النزاع لفظي .

                                                      وقدر ابن المنير كونه لفظا بأن الفقهاء يثبتون رفعا مع البيان ، والأصوليون يثبتون بيانا مع الرفع ، وذلك لأن الفقهاء لا ينازعون في أن الحكم المنسوخ كان قبل النسخ ثابتا وهو بعد النسخ غير ثابت . وإنما أنكروا رفعا يناقض الإثبات ويجامعه . والأصوليون لا ينازعون في أن المكلفين كانوا على ظن بأن الحكم لا ينسخ بناء على أن الغالب في الأحكام القرار وعدم النسخ ، ثم بالنسخ تبين لهم أن الله تعالى أراد من الأول نسخه في الزمان المخصوص ، لأن الإرادة قديمة لا بد منها اتفاقا فلا يبقى للخلاف محط . وقول ابن الحاجب : إن انتهاء غاية الحكم ينافي بقاءه ، ولا نعني بالرفع إلا ذلك مردود ، فإن هذا ليس برافع .

                                                      ومنهم من جعل الخلاف هنا مبنيا على اختلاف المتكلمين في أن زوال الأعراض بالذات أو بالضد . فمن قال ببقائها قال : إنما ينعدم الضد المتقدم لطريان الطارئ ، ولولاه لبقي ، ومن لم يقل ببقائها قال : إنه ينعدم بنفسه ثم يحدث الضد الطارئ وليس له تأثير في إعدام الضد الأول . وقال إلكيا : زعم القاضي أن النسخ رفع ، وإنما يستقيم إذا جعلنا النص الأول موجبا حقيقة تاما ، والموجب هو الله تعالى ، والوجوب باقتضائه ، فقد تبين انتهاء الأول في علم الله بالنسخ بأمر يخالف الأمر الأول ، ويستحيل تقدير وضع أمرين متناقضين في زمان واحد .

                                                      واختار الإمام أن النسخ ظهور ما ينافي اشتراط استمرار الحكم [ ص: 202 ] بقوله : افعل من حيث اللفظ للطلب ، ولكنه مشروط بأن لا ينهى عنه . ويصح منه أن يقول : افعل إن لم أنهك عنه . وقال : اخترت على هذا الرأي النسخ قبل مضي إمكان الفعل ، وعلى ما ذكره الأولون لا يجوز ، فإنه لا ثبوت قبل الإمكان . فقيل : للإمام ، فهذا من قبيل الاستثناء ؟ فقال : الاستثناء هو المقرون باللفظ ، والنسخ متراخ . وهو على هذا القول يرى ظهور المنافي بالإضافة إلى اعتقادنا التأبيد فيه ، وعلى رأي الفقهاء : النسخ لا يصادف الأمر ، بل يصادف استمراره ، وعلى رأي الآخرين لا يصادف لا البقاء ولا الأمر ، ولكن يبقى الحكم في الاستقبال . وهو إنما يصادف ما اعتقدناه فيه ، فيرفع اعتقادنا ، والبقاء ظاهر في اعتقادنا ، وهو في حق الله انتهاء . فعلى هذا الناسخ لا يضاد الأمر الأول ، ولا تتصور المضادة في إمضاء حكم الله تعالى إلا بطريق البداء ، وهو غير جائز عليه .

                                                      وحدته المعتزلة بالخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل ، وذكروا مثلا ليحترزوا به عن الرفع ، وجوزوا نسخ العبادة قبل التمكن من فعلها .

                                                      وقال العبادي من أصحابنا في كتاب " الزيادات " : اختلف في النسخ فقيل : إزالة فرض العمل في المستقبل . وقيل : بيان انتهاء مدة العبادة . وقيل : انتهاء مدة التكليف على ضرب من التراخي بدليل لولاه [ ص: 203 ] لوجب استرساله على عدم العموم . وقيل : قطع حكم توهم دوامه . قيل : وهذا أصل العبارات على أصل الشافعي ، لأنه يتناول ما قبل العمل وبعده . ا هـ .

                                                      والحد الثاني حكاه إمام الحرمين عن القاضي أبي الطيب ، وضعفه بأن النسخ يجري في غير العبادات . وقال الشافعي في " الأم " : الناسخ من القرآن الأمر نزله الله بعد الأمر بخلافه ، كما حولت القبلة . وقال في " الرسالة " : وهكذا كل ما نسخه الله تعالى ، وهي نسخه ترك فرضه ، وكان حقا في وقته ، وتركه حق إذا نسخه ، فيكون من أدرك فرضه مطيعا باتباع الفرض الناسخ له .

                                                      قال ابن القطان : وجملة الكلام في النسخ عندنا هو أن يأمر بأمر على الإطلاق في جميع الأزمنة ، ويريد منه بعضها ولا يكشف ذلك . ثم يأمر بأمر ثان ، فيعلم أنه أراد به بعض الأزمنة . قال : ولا فرق بين النسخ والتخصيص على هذا ، إلا في خصلة واحدة ، وهي أن التخصيص قد يجوز أن يكون مقترنا مع الأمر ، ولا يجوز ذلك في النسخ . انتهى . والحق أن النسخ للحكم كالفسخ للعقد ، كالكسر للصحيح ، والخلاف في أن الفسخ رفع للعقد من أصله أو من حينه لا يجيء هنا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية