الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب تحريم الخنزير قال الله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقال تعالى : [ ص: 153 ] حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقال تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فنص في هذه الآيات على تحريم لحم الخنزير ، والأمة عقلت من تأويله ومعناه مثل ما عقلت من تنزيله ، واللحم وإن كان مخصوصا بالذكر فإن المراد جميع أجزائه ، وإنما خص اللحم بالذكر ؛ لأنه أعظم منفعته وما يبتغى منه ، كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد ، وخص القتل بالذكر ؛ لأنه أعظم ما يقصد به الصيد .

وكقوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فخص البيع بالنهي ؛ لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم والمعني جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة .

وإنما نص على البيع تأكيدا للنهي عن الاشتغال عن الصلاة ، كذلك خص لحم الخنزير بالنهي تأكيدا لحكم تحريمه وحظرا لسائر أجزائه ، فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصا في لحمه .

وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير ، فقال أبو حنيفة ومحمد : " يجوز الانتفاع للخرز " .

وقال أبو يوسف : " أكره الخرز به " وروي عنه الإباحة .

وقال الأوزاعي لا بأس أن يخاط بشعر الخنزير ويجوز للخراز أن يشتريه ولا يبيعه " . وقال الشافعي : " لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير " .

قال أبو بكر : لما كان المنصوص عليه في الكتاب من الخنزير لحمه وكان ذلك تأكيدا لحكم تحريمه على ما بينا ، جاز أن يقال إن التحريم قد يتناول الشعر وغيره ، وجائز أن يقال إن التحريم منصرف إلى ما كان فيه الحياة منه مما لم يألم بأخذه منه ، فأما الشعر فإنه لما لم يكن فيه حياة لم يكن من أجزاء الحي فلم يلحقه حكم التحريم كما بينا في شعر الميتة ، وأن حكم المذكى والميتة في الشعر سواء ، إلا أن من أباح الانتفاع به من أصحابنا فذكر أنه إنما أجازه استحسانا ، وهذا يدل على أن التحريم قد تناول الجميع عندهم بما عليه من الشعر .

وإنما استحسنوا إجازة الانتفاع به للخرز دون جواز بيعه وشرائه لما شاهدوا المسلمين وأهل العلم يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم عليهم ، فصار هذا عندهم إجماعا من السلف على جواز الانتفاع به ، وظهور العمل من العامة في شيء مع إقرار السلف إياهم عليه وتركهم النكير عليهم يوجب إباحته عندهم .

وهذا مثل ما قالوا في إباحة دخول الحمام من غير شرط أجرة معلومة ولا مقدار معلوم لما يستعمله من الماء ولا مقدار مدة لبثه فيه؛ لأن هذا كان ظاهرا مستفيضا في عهد السلف [ ص: 154 ] من غير منكر به على فاعليه ، فصار ذلك إجماعا منهم .

وكذلك قالوا في الاستصناع إنهم أجازوه لعمل الناس ، ومرادهم فيه إقرار السلف الكافة على ذلك وتركهم النكير عليهم في استعماله ، فصار ذلك أصلا في جوازه ، ونظائر ذلك كثيرة .

واختلف أهل العلم في خنزير الماء ، فقال أصحابنا : " لا يؤكل " .

وقال مالك وابن أبي ليلى والشافعي والأوزاعي : " لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر " . وقال الشافعي : " لا بأس بخنزير الماء " .

ومنهم من يسميه حمار الماء . وقال الليث بن سعد : " لا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء " . قال أبو بكر : ظاهر قوله ولحم الخنزير موجب لحظر جميع ما يكون منه في البر وفي الماء لشمول الاسم له .

فإن قيل : إنما ينصرف هذا إلى خنزير البر ؛ لأنه الذي يسمى بهذا الاسم على الإطلاق ، وخنزير الماء لا يطلق عليه الاسم وإنما يسمى به مقيدا ، واسمه الذي يطلق عليه في العادة حمار الماء . قيل له : لا يخلو خنزير الماء من أن يكون على خلقة خنزير البر وصفته أو على غير ذلك ، فإن كان على هذه الخلقة فلا فرق بينهما في إطلاق الاسم عليه من قبل أن كونه في الماء لا يغير حكمه إذا كان في معناه وعلى خلقته إلا أن تقوم الدلالة على خصوصه ، وإن كان على خلقة أخرى غيرها ومن أجلها يسمى حمار الماء فكأنهم إنما أجروا اسم الخنزير على ما ليس بخنزير ، ومعلوم أن أحدا لم يخطئهم في التسمية ، فدل ذلك على أنه خنزير على الحقيقة وأن الاسم يتناوله على الإطلاق ، وتسميتهم إياه حمار الماء لا يسلبه اسم الخنزير ؛ إذ جائز أن يكونوا سموه بذلك ليفرقوا بينه وبين خنزير البر . وكذلك كلب البر سواء لا فرق بينهما ؛ إذ كان الاسم يتناول الجميع وإن خالفه في بعض أوصافه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية